درس الشعراوي

TT

عندما كنت أقيم في لندن بداية الثمانينات تدخل القدر لتغيير مسار حياتي. طلب مني صديق، ألم به ظرف طارئ، أن أقوم نيابة عنه باستقبال فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي كان سيصل في صبيحة اليوم التالي لرحلة علاج. كانت المهمة هي أن أستقبل الرجل ثم أصطحبه إلى فندق هيلتون بارك لين حتى أطمئن على وصوله بسلام إلى الغرفة.

المهمة في أقصاها كانت لن تزيد عن بضع ساعات لكنها - لحسن حظي - استمرت 93 يوما. تلك الصحبة الرائعة غيرت مسار حياتي ووجهتني نحو رؤية أعمق للدنيا والدين. تفرغت تماما لصحبة هذا العالم الجليل، ووجدت في علمه ضالتي المنشودة.

وقتها كنت شابا في نهاية العشرينات من العمر تستهويه مباهج الدنيا فحسب، لم أكن شيطانا لكنني أيضا لم أكن ذلك النموذج الذي يحتذى في التقوى. ولم أجد مربيا وسطيا بعيدا عن الغلو أو التطرف مثل فضيلة الشيخ الشعراوي. يعطي النصح بشكل ذكي، غير مباشر، بعيدا عن منطق افعل ولا تفعل، وبعيدا عن منهج التخويف والوعيد. محبة الله، مخافة الله، تقدير سيد الخلق سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من خلال الاتباع الواعي لسنته. اختار فضيلة الشيخ أن يكون طبيبه المعالج الدكتور فايز بطرس، المصري القبطي، المقيم في بريطانيا، ونشأت بينهما قصة مودة وصداقة يضرب بها المثل. كان شيخنا الجليل من هواة الطهو، وهي أيضا ميزة رائعة من ضمن الميزات التي جعلتني أسيرا لصحبته. وقد رأيت بنفسي كيف كانت الطنجرة التي يعدها تكفي لعشرات من الزوار بينما كان منطق العلم والحساب يقول إن المواد الموجودة فيها بالكاد تكفي خمسة أشخاص! كانت «البركة» تحيط به وتصاحبه في كل ما يفعل. وما أشهد عليه ليس «دروشة» لكنه واقع عايشته بنفسي.

وفي هذه الأيام التي يكثر فيها الحديث عن الثورات في عالمنا العربي تذكرت عدة عبارات للشيخ الجليل لعل في إعادة تدارسها فائدة للعقل العربي. قال الشيخ الشعراوي حول علاقة الدين بالسياسة: «إنني سوف أسعد للغاية إذا وصل الدين الصحيح إلى السياسة، لكنني سوف أشعر بالقلق العظيم إذا وصلت السياسة إلى رجال الدين!». وكان لشيخنا عبارة يرددها كثيرا حول فكرة الثورة والثوار، فكان يقول: «الثورة على الظلم واجب، والثائر الحق هو الذي يقوم بتغيير الظلم من خلال الثورة عليه، ثم لا يستمر في ثورته بل ليتفرع بعد ذلك لبناء الوطن».

رسم الشيخ الشعراوي الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة، وبين القائد الواعي والثائر المدمر، ووضع قواعد راسخة للخروج من المأزق الذي يتقاتل عليه الآن أبناء الوطن الواحد.

رحم الله محمد متولي الشعراوي.