تسمية المولود قبل أن يولد!

TT

أي متابع فطن سيقول لك أثناء نقاش ظاهرة «ربيع العرب» إن الموجة لم تكتمل بعد، وإن أي تصور نهائي لها يضعه أحدنا قد يخطئ بشكل كبير. تلك حصيلة ما واجهته من نقاشات في أكثر من ملتقى عربي، اجتمع رواده لتدارس آثار «ربيع العرب» حتى الآن. إلا أنني لا أكتم القارئ أنني أتبنى وجهة نظر أخرى، فعقلي يأمرني بها وقلبي يرجو ألا تحدث، محصلتها أن «ربيع العرب» يدخلنا في ظلامية جديدة، ربما تطول.

تسمية الحراك الشعبي بـ«الربيع» هي من قبيل تسمية الطفل قبل أن يولد، إلا أنها تحمل معنى إيجابيا يماثل ربيع الشعوب الأخرى التي استقرت على ديناميكية سياسية واقتصادية حديثة محورها الديمقراطية وتبادل السلطة، وفضاؤها الاقتصاد الحر. الراغبون العرب في التفاؤل يذهبون ذلك المذهب.

الحقائق بدأت تتكشف رغم قصر المدة الزمنية، فهذا أحد قيادات حزب النهضة التونسي، وهو قيادي متقدم، يصرح على رؤوس الأشهاد، بأن ما سوف يحققونه في تونس هو «الخلافة الراشدة السادسة»، على افتراض أن هناك أربعة من الخلفاء الراشدين، أضاف إليهم التاريخ خامسا هو عمر بن عبد العزيز، وها هي «الخلافة السادسة» تتقدم الصفوف في تونس! في مكان آخر وجدت أن السيدة الكريمة التي حصلت على جائزة نوبل للسلام العالمية، وهي من اليمن، تمتنع على رؤوس الأشهاد أيضا، من إكمال مقابلة تلفزيونية استضافتها، فقط لأن المقابل لها هو من الحزب الحاكم، في الوقت الذي توقع فيه الجميع أن «الربيع» سوف يأتي بديمقراطيين يتقبلون الرأي المخالف من أي مصدر أتى! من جانب ثالث تدخل أحدهم في إحدى الندوات التي شهدتها بالقول اليقين بأن القدس يبدو تحريرها في الأفق، فلما تساءل البعض: وما هي العلامات الدالة على ذلك؟ قال صاحبنا بيقين نهائي، إن القدس سوف تتحرر قريبا، لأن «الخلافة» على وشك السطوع في بلادنا العربية، مشيرا إلى نتائج الانتخابات في تونس والمغرب ومصر التي تقرب قوى الإسلام السياسي إلى السلطة، وهي بدورها، أي هذه القوى، سوف تقيم «الخلافة الجديدة»! علما بأن بدايات خسارة القدس تمت والعرب تحت راية خلافة إسلامية أخرى!

مثل هذه الأقوال التي أعتقد أنه سوف يعقبها أفعال، تشير إلى أي وجهة يأخذنا «ربيع العرب»، إنه يأخذنا من جديد إلى الغيبيات والجمود الفكري من جهة، وإلى حرمان الآخر المختلف من قول رأيه من جهة أخرى. ربما أكون مرة أخرى من المتشائمين، إلا أنني لا أجد مكانا للتفاؤل، بعد تلك العلامات الدالة على السير نحو أنظمة سياسية قطعية وشمولية ربما نترحم على من سبقها.

مرة أخرى لا أريد أحدا أن يدخلنا في المزايدة، بالقول: وهل كانت الأنظمة السابقة أفضل؟ بالفم المليان أقول: لا بالطبع.. إلا أنني في الوقت نفسه أرى أن ما هو قادم ليس قطعا بـ«الربيع» الذي اعتقده بعضنا، ما هو قادم حكم شمولي من نوع آخر، يضيف إلى الجروح الإهانات، كما يقول المثل الإنجليزي.

حقيقة الأمر أن الذي تغير هو سطح الأنظمة السابقة وشخوصها، أما النسيج الاجتماعي والثقافي العربي في كل تلك البلاد فلم يتغير، وبالتالي سوف يفرز كمية من الطاعة والخضوع لولي الأمر الجديد، كما خضع لولي الأمر السابق. وحتى أشرح هذه النقطة، أستأذن بسرد قصة سمعتها أخيرا من فم شخص جزائري مجرب، قال إنه كان قريبا من بن جديد، الرئيس الجزائري الأسبق، وكان الجزائريون بصدد كتابة دستور جديد، فتحدث بن جديد إلى صاحبنا بأن فتح الباب على مصراعيه للبقاء في سدة الرئاسة لا يجوز، ويكفي أن تكون المدة للرئاسة دورتين كل منهما خمسة أعوام. وطلب بن جديد من صاحبنا أن يقترح تلك الفكرة على لجنة الصياغة، على أنها صادرة من العضو نفسه، وما إن جهر صاحبنا بتلك الفكرة، حتى قامت القيامة، ورفض كثيرون في لجنة الصياغة تلك الفكرة، بل وتبرع بعضهم بشكوى ضد العضو ذاك إلى الرئيس.. إنه يريد تقويض النظام الديمقراطي. بن جديد يقول إن صاحبي كان رجلا شهما قال للشاكين إن الفكرة هو الذي أوعز بها. سردت القصة السابقة كي أقول إن شعوبنا تطبق، بسبب موروث متعمق، المثل القائل «من تزوج أمي فهو عمي»! وهناك أمثلة كثيرة وعديدة في هذه الشاكلة تأخذنا إلى القول إن من بيده السلطة تطيعه الجماهير، ليس لشيء إلا لفقر في قدرتها على الاستقلالية، وعدم خوضها تلك المسافة من البناء الاجتماعي المدني الذي يحتاج أولا إلى بيئة اقتصادية حديثة وتكوين تعليمي، وثانيا إلى زمن.

آخر الكلام..

ظهر أحدهم على شاشة التلفزيون الأسبوع الماضي وحلل نجاح الإسلاميين في الانتخابات المصرية على أنه «قد ذكر في القرآن»!.. هذه هي العقلية التي يجب أن يستعد العرب للتكيف معها.