قطر: المشروع السياسي يغالب رداءة الجغرافيا

TT

تاريخيا، أكثر الدول معاناةً هي الدولة/المدينة. فهي تستطيع تغيير قادتها. لكن لا تستطيع تغيير جيرانها. أو توسيع مساحتها. أو الإكثار من استيلاد كثرة أطفال من سكانها. مع ذلك، لم تفتقر إلى وسائل ذكية لإثبات وجودها، وحماية بقائها.

هونغ كونغ. سنغافورة. موناكو. دول البحر الكاريبي. مشيخات الخليج. جَنَوة. البندقية، في عصر التنوير. مكة. المدينة. جدة، في العصور الإسلامية الوسيطة. أثينا. إسبارطة في القرون التي سبقت ميلاد المسيح... كلها أمثلة ونماذج الدولة/المدينة. كلها اختارت وسائل تقليدية للعيش، كالتجارة. السياحة. الصيد البحري...

إلا قطر. فقد راهنت هذه الدولة/المدينة على الخيار الصعب. على السياسة. والدبلوماسية. و«الجزيرة»، للتغلب على رداءة الجغرافيا. رداءة الموقع الذي وضعها وسط جيران أقوياء.

استقلت قطر في عام 1971. استقرت في إغفاءة. هادئة. راضية، في كنف شقيقاتها المشيخات المتهادنة حينا. المتخاصمة حينا.

ثم... فجأة، خرجت من عزلتها. في انقلاب القصر (1995) لتفرض نفسها، باقتدار، على المستويات الخليجية. الإقليمية. الدولية، متغلبة في التسعينات، على ثلاث محاولات انقلابية، لإعادتها إلى قوقعتها البحرية الممتدة كإصبع الباهم في عرض الخليج.

الرهان القطري على السياسة اعتمد في البداية على الحركة الدبلوماسية النشيطة. الدائبة. أكثر من اعتماده على الآيديولوجيا. البراغماتية القطرية حلّت محل الدبلوماسية الكويتية المشغولة بهمومها الداخلية، بعد إخراج صدام من الكويت. البراغماتية القطرية أشبه بالغاز القطري. فهي أيضا غاز بلا رائحة. بلا لون. وأحيانا غاز ملتهب. أو غاز سائل يجري في قنوات ممتدة الأذرع. من المشرق. إلى المغرب. ومن سقف آسيا. إلى مجاهل أفريقيا.

مارست قطر الدبلوماسية ببرودة أعصاب. تدخلت في ما يعنيها. وفي ما لا يعنيها. نجحت هنا. أخفقت هناك. النجاح في تحقيق الذات منحها الثقة بالنفس. الإخفاق لم يشكل مركب نقص لديها. ظلت مستعدة للوساطة، حتى بين الأصابع المتشابكة.

طرأ طارئ على هذه الدبلوماسية، منذ عام 2005. فقد راحت تتشكل في قالب مشروع سياسي ذي آيديولوجيا خارجية، مراهنة على الإسلام السياسي الإخواني. ثم ما لبث هذا الرهان أن تبلور في دعم جريء، وبكل الوسائل والطاقات، للانتفاضات التي نجحت، هذا العام في تغيير أنظمتها (تونس. ليبيا. مصر. اليمن. وربما سورية غدا).

لكل نصر سياسي إيجابيات وسلبيات. كان التحليل السياسي القطري ناجحا في الربط بين يأس وغضب الشارع العربي على النظام الجمهوري الفاسد، وتصويته بـ «نعم» انتخابية لهذه الإخوانيات. ومن حسن حظ قطر أن الإخوانية السياسية لم تحظ بتفويض انتخابي يطلق يدها في احتكار السلطة. فهي تحتاج إلى شريك سلفي أو ليبرالي، لاستكمال شروط اللعبة الديمقراطية، بحيث تجد من الصعب الانفكاك عن الولاء والوفاء للمشروع القطري.

كانت القيادة السياسية القطرية من الحذر، بحيث لم تتحرك منفردة في الرهان على الإخوانية السياسية، كما كانت تفعل سابقا في وساطاتها الدبلوماسية. فقد توكأ المشروع القطري على المشروع التركي، في لهفته لاستيلاد إسلام عربي مائل له في الانفتاح، عن إسلام إخواني متزمت أو محافظ. وكلاهما استعان بمظلة أميركية راغبة في تحسين سمعتها لدى العرب، من خلال مبايعة الإسلام الإخواني الذي يستعد للتربع على تخت السلطة.

هل اكتشفت قطر الإخوانية السياسية بالمصادفة، أم بالتخطيط وإمعان النظر إلى البعيد؟ لا مصادفات في صياغة المشروع السياسي للدولة الكبيرة أو الصغيرة. أقول مباشرة إن الشيخ يوسف القرضاوي الذي غدا مؤسسة دينية سياسية ودعائية، تفوق في نشاطها وحركتها المؤسسة الدينية القطرية التي لم تعد تتمتع، بعد انقلاب القصر، بنفوذ مماثل لنفوذ وقوة شقيقتها المؤسسة الدينية السعودية. والأخيرة لم تعد مرحبة بالإخوانية السياسية، أو منسجمة معها.

القرضاوي الإخواني المخضرم (82 سنة) المقيم في قطر منذ النكبة الإخوانية المصرية، دشن بذكاء وجرأة خطف الإخوانية السياسية للانتفاضة وشعاراتها، منذ أن حمله حرسه الإخواني إلى منبر «ميدان التحرير». ولم يكن ليقدم على ذلك، لو لم يكن يلقى دعما من المشروع القطري الذي شارك على الأرجح في صياغته.

لست ناقدا للمشروع السياسي القطري في رهانه على الحاكمية الإخوانية. إنما أجد من الأمانة الإعلامية، في عصر انتفاضة عريضة راغبة في ممارسة حق المعرفة، أن أقدم عرضا لهذا المشروع، كما أراه. وأفهمه. ولعلها محاولة إعلامية أولى للشرح والتفسير، من دون التجريح الذي يلقاه، مثلا، هذا المشروع من الشبيحة العربية المخدوعة ببشار، انخداعها الساذج سابقا بصدام.

لا شك أن قطر في قيادتها للمبادرة العربية إزاء سورية، تمثل وتجسد ما قلت سابقا عن انتقال مركز الثقل السياسي والمادي العربي إلى الخليج. وهي في هذه «المبادرة/المغامرة» تلقى بشكل وآخر تأييد شقيقاتها الخليجيات، في دعم جامعة الدول العربية، كأداة تنفيذية لرغبة العرب في معاقبة نظام يرتكب خطأ النظام الليبي في الاستئصال الأمني لملايين المحتجين المسالمين.

إن نجحت المبادرة القطرية، أو إن أخفقت، فهي ستواجه معارضة قد تؤدي إلى فقدان العلاقة الهادئة التي تربطها بإيران، أو نقمة قطاع من الرأي العام العربي ما زال مخدوعا بمظلة «الممانعة» التي تخفي تحتها طائفية نظام متعصب يعتقد أنه يخوض حرب بقاء أو موت، ليس مع عدو، إنما مع شعبه!

من هنا. أعتقد أن فتحة الببكار القطري والخليجي يجب أن تنفتح وتتسع، بحيث تقترب من رأي عام عربي ليبرالي ليس شرطا أن يكون قريبا من الإخوان والسلفيين، إيمانا بأن المشروع السياسي يجب أن يكون تعدديا في خياراته، كي لا يفشل وينطفئ، في حالة فشل التيار الذي يراهن عليه.

عزمي بشارة قد لا يملك شعبية ومكانة الشيخ القرضاوي. لكن استيعاب قطر له، وخطفه من الحضن السوري، قد يؤهله إلى لعب دور على شاشة «الجزيرة»، في استقطاب قطاع قومي أو ليبرالي ما زال غير قادر على ممارسة نقد أمين لتجربة صدام العشائرية وتجربة حافظ وبشار الطائفية.