عندما تصبح «الفزاعة» حقيقة!

TT

فيما أعلم، فقد كان الدكتور سعد الدين إبراهيم عالم الاجتماع السياسي هو الذي أطلق على حركة الإخوان المسلمين تعبير «الفزاعة» في معرض حديثه عن الحجج المختلفة التي يطلقها النظام المصري السابق، ومعه دول عربية أخرى، للإبقاء على الطغيان الذي كانوا يعيشون فيه. كانت الحجة مماثلة لحجج أخرى مثل النظام أو الفوضى، أو أنها هي النظام أو السيطرة والهيمنة الأجنبية. والحقيقة أن قائمة «الفزاعات» كانت طويلة، ولكن أكثرها فجاجة كانت أن البديل الوحيد للنظم القائمة هو الإخوان المسلمون ومن ورائهم طابور طويل يبدأ بهم وينتهي بتنظيم القاعدة وما بينهم السلفيون والجماعات الإسلامية والجهادية والتكفير والهجرة، وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، كلها تدور حول الحق الإلهي في الحكم، والإمساك برقاب العباد باسم الدين، والأمثلة لا أول لها ولا آخر في إيران وأفغانستان والسودان وتجارب طالبان وما شابهها من تنظيمات روعت خلق الله وسلبت حقوق المرأة وطعنت في حقوق الأقليات، سواء جاءت من داخل الإسلام أو من خارجه.

ولم يمض وقت طويل حتى كان ما قال به الدكتور سعد الدين إبراهيم ذائعا ما بين دوائر ليبرالية عديدة ليس في العالم العربي وحده، بل امتد حتى وصل إلى الديار الأميركية والأوروبية. وباتت مؤسسات علمية كاملة مثل «كارنيجي» الأميركية على سبيل المثال تعتقد أن ما يقف ما بين الدول العربية والديمقراطية لا يزيد على النظم السياسية القائمة التي تستخدم قوى الإسلام السياسي، وفي المقدمة منها حركة الإخوان المسلمين، باعتبارها «فزاعة» للاستمرار في الحكم. وسارت الدراسات الذائعة بأن الحركة تعد قوة معتدلة جرت لها عملية تشويه متعمد من ناحية، إلى جانب أنه لا يوجد ما يقطع من ناحية أخرى بأنها سوف تصل إلى السلطة إذا ما جرت انتخابات نظيفة ونزيهة في الدول العربية، حيث توجد القوى الليبرالية والاشتراكية والعلمانية القادرة على موازنة شطط «الإخوان» إذا ما جرى.

وعندما نشبت الثورات العربية المتتابعة، وظهر الربيع العربي لكي يحل محل الاستثناء العربي كان ذلك برهانا على التنوع والتعدد داخل الشعوب العربية التي انتفضت في النهاية معبرة عن مكنونات صدورها، حيث ظهر أن الفزاعة لم تكن فزاعة على الإطلاق، بل إنها لحقت بقطار الثورة في تونس ومصر في الدقائق الأخيرة قبل منتصف الليل.

ولكن الربيع العربي مر عليه صيف ومن بعده جاء الخريف حيث توالت الانتخابات العادلة النزيهة فإذا بحزب النهضة يفوز بنصيب الأسد في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب حتى بدون ثورة تشغل الميادين، وأخيرا وصلنا إلى القاهرة حيث كانت تجري الحجة في استنكار واضح. وكانت نتيجة الجولة الأولى للانتخابات عاكسة لصدق النظام السياسي السابق، بل مصدقة لما كان يتنبأ به على الأقل في نصفه الأول، وهو أن جماعة الإخوان ومن شابهها من تنظيمات الإسلام السياسي هي الوريث لطغيان النظام، مع فارق واحد - وذلك هو النصف الثاني من النبوءة - وهو أنها سوف تكون أكثر طغيانا واستبدادا. وكانت إيران هي المثال الشائع حيث قام بالثورة على الشاه الليبراليون والشيوعيون والإسلاميون التقدميون ولكن من فاز بها وسيطر عليها ووضع دستورها الذي يكفل دوران السلطة داخلها فقد كان الخميني وأنصاره من الجماعات الأصولية المتطرفة التي حدث أنها كانت شيعية في تلك المرة.

وللحق فقد كان فوز حزب النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب مغريا بالحديث حول تكرار التجربة التركية، والإمكانية التي يحملها الإسلام السياسي عندما يكون معتدلا ومراعيا لمقتضى الحال الديمقراطي. ولكن الحالة في القاهرة لم تكن قط موازية تماما، فالنقد للحالة التركية بين صفوف «الإخوان» المصريين ليس خافيا على أحد، وكان آخره عندما زار أردوغان القاهرة ونوه إلى ازدهار الإسلام في دولة علمانية. وعلى الطريق ما بين الربيع والخريف كانت أيام جمعة «قندهار» فيها من التهديد للقوى الحليفة ما لا يقل عن التهديد للنظام. وكانت المقاومة للتوافق حول مبادئ دستورية تحافظ على سمات الدولة المدنية العصرية من الأمور التي لا يوافق عليها «الإخوان» بأكثر من أن تكون مبادئ «استرشادية»، بينما رفضتها كلية الجماعات الإسلامية والسلفية والجهادية على أساس أنه لا بديل عن تطبيق الشريعة الإسلامية وفق الطبعة الطالبانية الجهادية.

الجولة الأولى من الانتخابات المصرية أعطت لـ«الإخوان» والسلفيين معا أكثر من 60 في المائة، ولا يوجد ما يشير إلى أن الجولات التالية سوف تكون مختلفة أو أنها سوف تعطي نفسها لمفاجآت تغير من واقع الاندفاع الجاري من الدار البيضاء حتى القاهرة. وبالطبع لا يستطيع أحد أن ينكر أن ذلك هو اختيار الشعب، ولكن المعضلة هي هل سوف يظل الشعب بالفعل دائما صاحب اختيار أو لا، أم أن ما جرى سوف يجري مرة واحدة في التاريخ ومن بعده لا يكون هناك خيار آخر؟

لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور منذ نشب الربيع العربي، وربما كان أهمها اختبار قدرات الشباب العربي عما إذا كانت قدراته على «فيس بوك» تستطيع أن تعبر به من التكتل في الميادين إلى الساحة الواسعة للديمقراطية. ولكن ما جرى فعليا أثبت أنه لا يزال هناك أمام الشباب العربي الكثير لكي يعرف الفارق ما بين الهبات الجماهيرية والثورة، حيث الأولى تطيح بالنظم القائمة ثم لا شيء بعد، أما الثانية فهي تطيح بنظام وتقيم آخر ديمقراطيا طال الشوق إليه. الاختبار الآخر يأتي على جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وربما ليبيا وسوريا واليمن ودول عربية أخرى في المستقبل، حول ما إذا كان حكمها سوف يكون ما هو أقرب إلى النظام التركي، أم أن الانتقال إلى النظام الإيراني حتمي بالضرورة.

الأرجح أن المتحدثين باسم «الإخوان» سوف يصرون على أن النموذج المصري سوف يكون مصريا صميما، وساعتها فإن النبوءة القديمة سوف تجد مجالها. فما كان مصريا صميما لم يكن بعيدا قط عن الطغيان على مدى ستة آلاف عام حتى ولو كان تحت اسم آخر معروف بالفرعونية السياسية. ومن الجائز أن التجديد «الإخواني» سوف يكون أن يذهب الفرعون ولكن تبقى الفرعونية قائمة، أو أن معجزة سوف تحدث، واحتراما لاتفاقات وتوافقات سابقة فإن مدنية الدولة سوف تظل ممكنة حينما يحين وضع الدستور ويجري الاستعداد لنقل السلطة إلى الجماعة المدنية في نهاية شهر يونيو (حزيران) المقبل كما وعد المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

وببساطة فإن القول الأخير في حجة «الفزاعة» لم يصل إلى الجميع بعد، ولكن المرجح أننا لن ننتظر طويلا، فلم يبق من الزمن إلا أشهر قليلة، وبعدها تظهر الحقيقة فاتحة طريق الحرية أو تقود مصر والمنطقة من ورائها إلى حيث يكون الفزع مروعا وقاسيا.