من سيحكم مصر؟

TT

قال الرئيس الراحل السادات مرة للدكتور علي السمّان: «إنّ من يحكم مصر، أيّا كان، فهو فرعون مصر، وبالتالي فإن الفارق بينه وبين من يأتون بعده في الأهمية وترتيب المسؤوليات كبير جدا، وبالتالي فلا خشية ولا خطر من تعيين قادة ومسؤولين من الأحجام الكبيرة» («أوراق عمري»، المكتب المصري الحديث، 2005). حديث السادات يعبر ولا شك عن حالة الحكم في مصر طوال العقود الماضية، والتي ميّزها وجود حكام أقوياء - أو فراعنة - لهم مطلق الصلاحية في حكم البلاد، ولكن في 25 يناير تعرض هذا الاعتقاد للتحدي، فقد اضطر الرئيس السابق حسني مبارك إلى التنحي تحت ضغط الجيش، ولئن كان مبارك قد حكم مصر كـ«فرعون» - معتدل - طوال ثلاثة عقود، فإن الطريقة التي أجبر بها على الخروج تطرح أسئلة مهمة عن مستقبل الحكم في واحدة من كبرى دول المنطقة، وأكثرها أهمية من الناحيتين الاستراتيجية والديموغرافية.

صدرت نهاية الأسبوع الماضي نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية، التي حصدت فيها الأحزاب الإسلامية كالإخوان المسلمين والجماعة السلفية ما يزيد على 64 في المائة من الأصوات المعلنة، ويتوقع عدد من المراقبين أن تواصل الأحزاب الإسلامية الحصول على أصوات إضافية في الجولتين الثانية والثالثة، مما قد يرفع رصيدها إلى ما يزيد على 70 في المائة من مجمل المقاعد في مجلسي البرلمان والشورى المصريين. أمام هذا التغير الدراماتيكي، لعلنا نعيد طرح سؤال كانت مجلة «منتزيس» البريطانية قد طرحته في ربيع 1906: من يحكم مصر؟ أو بعبارة أدق: من سيحكم مصر بعد مبارك؟

حتى الآن، لا يزال المجلس العسكري المصري هو الحاكم الرسمي للدولة، ممثلا برئيسه المشير محمد حسين طنطاوي، وحسب الجدول الانتقالي المعلن من قبل المجلس فإن البرلمان والشورى المصريين سيكون من واجبهما اختيار أعضاء اللجنة الدستورية (مائة عضو) المخولة إعداد دستور جديد للبلاد. أما انتخابات الرئاسة المصرية المزمع إقامتها في مارس (آذار) - أبريل (نيسان) 2012 فستكون المرة الأولى التي يأتي فيها رئيس جمهورية مصري إلى سدة الرئاسة عبر صناديق الانتخابات.

في استطلاع للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة، أجراه قسم بحوث وقياسات الرأي العام على مرشحي الرئاسة وفقا لآراء عينة من الجمهور من 26 محافظة، جاء عمرو موسى المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية في صدارة الاستطلاع بنسبة 23.2%. أما محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة، فقد جاء في المركز قبل الأخير بنسبة 4% فقط. إذا صدقت استطلاعات الرأي المتعددة، فقد نكون أمام سيناريو يكون فيه عمرو موسى على سدة الرئاسة المصرية، وبرلمان مصري يسيطر فيه حزب الحرية والعدالة - التابع لجماعة الإخوان المسلمين - على ما يزيد عن 40 في المائة من المقاعد، مما يجعل لهم الأحقية في تشكيل أول حكومة ائتلافية مصرية منذ 1952. هنا تكون مصر قد عادت إلى مرحلة الأربعينات الماضية حينما كانت الأحزاب السياسية تتنافس في ما بينها لتشكيل الحكومات.

حتى الآن، لا يزال الجدل دائرا بين النخب المصرية فيما إذا كان على مصر أن تتحول من النموذج الجمهوري الرئاسي - الفرنسي - إلى النموذج الرئاسي البرلماني على الطريقة البريطانية، أو تتخذ شكلا جمهوريا موسعا على الطريقة الأميركية، بحيث يلغى منصب رئاسة الوزراء، ويحتفظ الرئيس بالصلاحيات التنفيذية، ويكون للبرلمان ممارسة التشريع، وللشورى حق النقض والإقرار بحيث يضمن عدم طغيان الأكثرية (بالمعنى الديني والمناطقي) على حقوق ومصالح الأقلية. إذا افترضنا أن الأمور سارت حسب الجدول المعلن، فإن السيناريو المتوقع هو أن تتخذ مصر نفس النظام القديم مع تعديلات دستورية آيديولوجية - من قبل الإسلاميين - تتعلق بأسلمة بعض نواحي الحكم أكثر منها تغييرات جوهرية في هيئة أو نظام الحكم، وهذا مبني على أن الإخوان قد يتمكنون من الفوز بإدارة الحكومة، ولكن ستبقى الرئاسة بيد طرف ثالث هو أكثر خضوعا لرغبات المجلس العسكري المصري، أي أن علاقة العسكر قد لا تنتهي بانتخاب رئيس جديد لمصر في 2012، بل سيظل للعسكر تأثير كبير في السياسة المصرية كصانعي ملوك وليس كحكام مباشرين للبلد.

وفق هذا التقدير تكون مصر قد تجاوزت مرحلة 1952 - 2011 التي كان العسكر فيها يحكمون مباشرة، ولكن سيكون عليهم أن يقبلوا المشاركة في السلطة بوصفهم «حماة الدستور»، وهو تعبير لمح إليه أكثر من عضو في المجلس العسكري خلال الشهور الماضية. إذا تحول العسكر إلى لعب دور «حامي الدستور» فسيكون بإمكانه التدخل متى ما أحس أن أحد أطراف العملية السياسية يرغب في إقصائه والاستئثار بالحكم من دونه.

هناك أمثلة كثيرة على هذا النموذج، تركيا ما بين 1982 - 2010، وباكستان ما بين 1977 - 2009، والجزائر منذ 1965 حتى اليوم. طبعا هناك سيناريو آخر قد يكون فيه العسكر خارج السلطة نهائيا في مصر، وهو ما يود بعض ثوار التحرير رؤيته، لا سيما بعد الصدامات التي سبقت الانتخابات الأخيرة، والهجوم بشكل مباشر على رئيس المجلس العسكري المشير طنطاوي وبقية أعضائه.

أمام هذا الوضع تقف الأحزاب والتيارات الإسلامية - الإخوان تحديدا - أمام تحدٍّ كبير، فهم بوسعهم أن يتقبلوا الوضع الراهن ويركزوا على الخروج بمصر من الأزمة الراهنة، مركزين - أولا - على إصلاح الاقتصاد المصري، واستعادة الخدمات الحكومية - كالأمن - إلى مستويات ما قبل 25 يناير، واستعادة الاستثمار الأجنبي - الخليجي والأوروبي - من أجل زرع الثقة بمستقبل مصر السياسي والاقتصادي. هذا السيناريو يستدعي أن يحذو حزب الحرية والعدالة حذو نظيره التركي - العدالة والتنمية - فيعمل باجتهاد على تقديم نموذج تنموي ينقذ مصر من حالة السقوط الحر الذي يواجه اقتصادها مع تبخر احتياطياتها الأجنبية. إذا ما نجح الإخوان في إدارة الحكومة مقارنة بالنجاح - النسبي - لحكومة الدكتور أحمد نظيف المقالة، فقد يتمكن الإخوان - وحلفاؤهم من الإسلاميين - من تغيير النظام السياسي المصري في غضون خمسة إلى عشرة أعوام قادمة.

هناك - بالطبع - سيناريو آخر سيئ، وهو أن يواصل الإخوان المسلمون ذات الخطاب الشعاراتي - الشعبوي - فيهملون الأولويات الاقتصادية، بحيث يركزون على استعادة موضوعات «الممانعة» و«المقاومة» أمام إسرائيل والدول الغربية، وقد يشمل ذلك التحالف مع إيران بمواجهة دول الخليج، أو السعي الجامح نحو إقصاء العسكر والقوى السياسية العلمانية من مواقعهم بغرض الهيمنة على الساحة السياسية كما حدث في إيران بعد ثورة 1979 حينما استطاع أنصار الإمام الخميني إقصاء منافسيهم من القوى الليبرالية والشيوعية واليسارية العلمانية.

لا شك أن القوى الإسلامية ستحظى بفرصة تاريخية لإصلاح صورتها، وتاريخها السياسي المليء بالاغتيالات وتبرير العنف، والترويج لأحلام طوباوية متطرفة عن شكل «الخلافة الراشدة» تحت حكم الشريعة الإسلامية حسب تفسيراتهم المتشددة للنصوص الدينية. أما إذا ما فشلت في ذلك، فإن مستقبل مصر قد لا يعدو إلا تكرارا للنموذج الباكستاني المتعثر.

في أعقاب حرب أكتوبر 1973، ذهب فريق من التلفزيون الفرنسي إلى ميت أبو الكوم، مسقط رأس الرئيس الراحل السادات لتسجيل فيلم عن حياته، وقد استغرق الإعداد للفيلم وتصويره شهورا كثيرة. وخلال اللحظات الأخيرة للفيلم سجّل المخرج الفرنسي الرئيس الراحل السادات لدقائق وهو يقف وحده صامتا أمام نهر النيل، قبل أن يقول: «أحيانا تكون الوحدة مخيفة على قمة السلطة». أولئك الذين سيحكمون مصر مستقبلا سيشعرون بتلك الوحدة في نهاية المطاف، ولكن عليهم أن يتعلموا قبل ذلك كيف يستطيعون التخلي عنها حينما يكون صعودهم فوق الأكتاف طويلا ومملا.