إلى الجحيم أيها العلمانيون!

TT

واحد من أظرف الأخبار التي نقلتها الصحف في الأيام الأخيرة، هو عن اجتماعات مكثفة تعقدها، على عجل، تيارات ليبرالية ويسارية مصرية، للتنسيق والتعاون فيما بينها، بهدف توحيد صفوفها وخوض الدورتين الثانية والثالثة من الانتخابات صفا واحدا، في محاولة استلحاقية لوقف الزحف الإسلامي إلى مجلس الشعب. هذا التدبير المتأخر جدا لن يجدي نفعا - بحسب الليبراليين أنفسهم - في إقناع الناخبين بأنهم أمام قوى تستحق ثقتهم. فهؤلاء سبق أن تداولوا قبل الجولة الأولى، أي قبل أن يطلع عليهم «البعبع الإسلامي» من القمقم، ولم يصلوا إلى نتيجة. توحدهم الآن يبدو انتهازيا أكثر منه مبدئيا، لكن الأهم أن تجربة القوى المسماة بالحداثية طوال نصف قرن جاءت نتائجها كارثية، ويكفي أن تلقي نظرة على تسعة رسوم تبسيطية نشرتها جماعة الإخوان تحت مسمى «تسعة أسباب تخليني أعطي صوتي للحرية والعدالة» لتفهم أنهم لم يكونوا بحاجة لكبير جهد لإقناع الناخبين. فهم بحسب التعليقات المصاحبة لهذه الرسوم: «قدموا برنامجا واضحا وتفصيليا يراعي الأولويات. المواطنة عندهم هي الأساس. نائب الحزب وراءه جيش من الخبرات». ومن فضائلهم أيضا أنهم «مش نازلين علينا بالباراشوت. دفعوا ثمن نظام مبارك من عمرهم وحريتهم. خدماتهم لنا عمرها ما وقفت. مرجعيتهم الإسلامية وأخلاقهم بتخلينا مطمئنين وواثقين. كما أن أيديهم طول عمرها نظيفة. وتجربة نوابهم مشرفة». كل ما سلف مجرد ادعاءات إخوانية مخادعة كما يقول العلمانيون. وقد يكون الأمر كذلك. لكن «على نفسها جنت براقش». وأنت لست بحاجة إلا لأن تعكس معنى هذه العبارات القصيرة والمقتضبة، لتفهم أنها تعد المقترع بإنقاذه من كل الكوارث التي أنزلها على رأسه من حكموه باسم العلمانية وأخواتها، وما أكثرها.

«الدنيا ما لهاش أمان» ومع ذلك تصرف العلمانيون وكأنهم سيخلدون في السلطة. وكعلمانية خاسرة أقول في نفسي: «عدو يجاهرك بالعداء خير من صديق زائف». فالإسلامي الذي يخطط لإلباسي الحجاب قد يؤتمن أكثر من الليبرالي الذي بقي يطارد الإسلاميين من جهة ويغازلهم من جهة أخرى، ويحرضهم علينا من ناحية، ثم يتهمهم بالإرهاب بعد ذلك، حتى جنوا وجننونا معهم. استعداء جزء من المجتمع على ما تبقى منه، كانت سياسة ممنهجة. ومن يقول: إن حسني مبارك لم يسهم في إيصال السلفيين اليوم إلى ربع مجلس الشعب، يختبئ وراء إصبعه، تماما كما شارك بقوة زين العابدين بن علي في تحويل أعضاء «حزب النهضة» إلى مضطهدين ومنبوذين تتوجب إغاثتهم، فيما استغل سوء سمعة «القاعدة» ليقنع الغرب بضرورة إبقائه على الكرسي.

أبلسة العلمانيين للإسلاميين بعد أن اكتسحوا الشمال الأفريقي لن تسعف إلا في زيادة شعبيتهم، وبما أن «الاجتهاد هو خير بضاعة» فعلى من لم يحالفه الحظ هذه المرة أن يعترف بأخطائه الشنيعة ويسارع لتصحيحها بدل الصيد في مياه الآخرين، وكما أن الأحزاب الليبرالية واليسارية المصرية تنبهت إلى أنها مفككة، وخطابها خشبي ونخبوي وبعيد عن الحس الشعبي، فعلى باقي أصحاب هذا التوجه أن يعيدوا النظر في مسارهم غير المشرف،

فما هو الأسوأ بالنسبة لبسطاء الناس؟ أن تفرض عليهم زيا يقيدهم، أم أن تسرق اللقمة من أفواه أطفالهم وتتركهم للذل والفاقة! هذا ليس حسن ظن بنقاء الإسلاميين، لكن فساد من سبقهم لا يحتاج لإثبات. ومفيد التذكر أن النخبة المتفرنجة، المنتفخة كالطواويس، لم تعد غالبية في مجتمعاتنا. فالنساء الفقيرات لا يلبسن المايوه، ولا يطالبن بكوتا في البرلمان، كما أنهن غير عابئات بنظرياتنا المترفة حول «الحريات» و«حقوق الإنسان». أما رجالهم فجل ما يتمنونه هو سد رمق من يعيلونهم. هذه هي أغلبيتنا الجديدة للأسف، التي استولدتها أنظمة الليبراليات المزعومة، والعلمانيات الملغومة بألف حيلة دينية.

الأغلبية الجديدة في تونس رفعت وهي تتظاهر يافطة تقول: «خبز وماء والعلمانية لا». هكذا تحولت العلمانية بفضل من استبدوا باسمها إلى رمز للنهب والفساد. وعلى من يحمل المسؤولية لطبقة صغيرة متنفذة وحدها، أن يتذكر جيوش المثقفين والمفكرين كما الخبراء والمتمولين الذين داهنوا، وتواطؤوا، وتذللوا من أجل حفنة من المال، وأحيانا مقابل خدمات يندى لها الجبين. هؤلاء أغلبيتهم الساحقة «حداثيون» في عناوينهم، متخلفون وانتهازيون حتى الثمالة في سلوكهم المخزي. لهذا نقول: إن ما سيسفر عنه ربيع سوريا كما اليمن سيكون شبيها بما أنجبته صناديق تونس ومصر والمغرب، وقريبا جدا ليبيا. فمحمد علي صالح ومن حوله عاشوا سنواتهم الأخيرة لا هم لهم سوى «محاربة (القاعدة)». وبشار الأسد وأصحابه يطيلون عمر النظام باستثارة عصبية علوية ضد أكثرية سنية على غرار ما كان يفعله صدام ضد الشيعة في العراق.

فلسطين ليست على جدول البرامج الانتخابية، وغابت عن شعارات الثورات، لكنها قابعة في ضمير كل ناخب عربي. الأنظمة البائدة المستبدة والمحسوبة على الليبرالية، لم تخفق فقط في استعادة فلسطين أو جزء منها، بل صالحت إسرائيل، ورهنت قرارها الوطني للغرب. هذا لا يعني أن الإسلاميين هم الحل، لكن هكذا هي الديمقراطية التي اخترنا الاحتكام إليها، تقصي المخطئ بانتخاب من قد يكون أسوأ منه أحيانا.

وبالنتيجة، هل نجحت إيران في تصدير ثورتها و«ديمقراطية» ملاليها إلى «إخوان» وسلفي العالم العربي، بعد طول مقاومة. هذا هو السؤال الذي لا بد من طرحه. الشبه كبير بين الحالتين، بين فساد الشاه واستقوائه بالغرب وطغيان الرؤساء المخلوعين ورهانهم على الخارج. الشبه كبير أيضا بين الإيرانيين الذين شارك الليبراليون منهم كما اليساريون في الثورة إلى جانب الإسلاميين للتخلص من الإمبراطور ليجدوا أنفسهم بعد ذلك مطاردين ما لم يدخلوا في طاعة النظام الديني. ليس أكيدا بعد أن الإسلاميين العرب اختاروا النموذج التركي وليد العلمانية القصرية والمخاض الهادئ، حتى ولو كان كرههم للنموذج الإيراني كبيرا. فمن الحب ما قتل، لكن البغضاء سامة هي الأخرى.

يستحق العلمانيون بعد كل الذي اقترفوه بحق مجتمعاتهم وأنفسهم أن يذهبوا إلى الجحيم. أما وأن الخيار الآخر خطير إلى هذا الحد، فإن يقظتهم من غيهم، واعترافهم الصادق بالفواحش التي ارتكبوها، وتصحيح مسارهم، بدل التلهي بمناكفة الإسلاميين ومهاجمتهم، هو الرهان الوحيد المتبقي كي لا نرى الموديل الإيراني بنكهة سنية يبطش بنا.