التفاؤل الحذر من الانتخابات العربية

TT

إذا حكمنا بما تقوله وسائل الإعلام الغربية، فسنجد أن آمال العرب في إمكانية التحرك نحو الديمقراطية قد تحطمت، نتيجة فوز «الإسلاميين» في الانتخابات التي جرت بامتداد البلاد العربية من المغرب إلى مصر، حيث تتكهن افتتاحيات الصحافة الغربية بقدوم نوع من «شتاء الإسلاميين» يعقب «الربيع العربي».

ويتساءل المفكرون الغربيون قائلين: «ماذا نحن فاعلون؟».

وإذا كان من المفترض أنه يتوجب علينا، كمحللين خارجيين، أن نفعل شيئا، فإن أول شيء ينبغي علينا فعله، هو معرفة ما حدث بالضبط.

والشيء الأول الذي حدث هو تفكيك النموذج العربي للأنظمة الأمنية العسكرية، التي كانت وليدة الانقلابات العسكرية التي وقعت خلال الأربعينات والستينات، وإن كان هذا النموذج لا يزال يقاوم باستماتة في السودان وسوريا. ولكن تاريخ صلاحية هذه الأنظمة قد انتهى حتى في تلك البلاد.

والشيء الثاني الذي حدث هو أن الشعوب العربية من المغرب إلى اليمن، مرورا بتونس ومصر والعراق، قد اتفقت فيما بينها، بشكل ضمني على الأقل، على أن الشرعية يمكن أن تستند إلى إرادة المواطنين، المعبر عنها من خلال الانتخابات.

ويعتبر هذا الأمر في حد ذاته بمثابة تطور هائل، فقد تخلت القوى التي تحلم بالشرعية الثورية في السياسة العربية، وهو ما كان يعني غالبا وقوع انقلاب عسكري، من ناحية، عن تلك الخرافة، ومن ناحية أخرى، كفت الأحزاب التي كانت تنادي بالشرعية المبنية على أساس ديني، عن ادعاءاتها. وقد بدأت عدة دول عربية في خلق مساحة عامة تستطيع جميع القوى السياسية أن تعمل فيها بحرية، بحيث يكون هناك متسع للجميع في هذه المساحة الشاملة، سواء للأحزاب الإسلامية، أو الأحزاب المحافظة أو الاشتراكية.

وقد تخلت الأحزاب الإسلامية، بعد قبولها قواعد اللعبة الجديدة، عن ادعائها بأنها هي وحدها التي تملك الحقيقة، وأن الجميع إما أن يتفقوا معها، وإما أن يصمتوا أو يموتوا.

وقد دخل الإسلاميون العرب الانتخابات دون أن يستخدموا شعاراتهم الدينية، مثل «الإسلام هو الحل»، حيث قاموا بتغيير أسمائهم لتصبح لهم شخصية جديدة، كما أصبحت برامجهم الانتخابية شبيهة ببرامج الأحزاب المحافظة الموجودة في كل مكان، والمؤيدة لاقتصاد السوق.

وقد دخل الإسلاميون سباق الانتخابات، في كثير من الأحيان، من خلال الائتلافات التي كوّنوها مع الأحزاب العلمانية. وحتى الآن، عندما نقوم بجمع الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب والجماعات الإسلامية، سنجد أنهم لم يحصلوا على أغلبية مطلقة في أي مكان، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نسبة الإقبال المتوسطة للناخبين، حيث سنجد أن حصة الإسلاميين لا تتعدى نحو 30 في المائة من مجموع الأصوات، وقد حدث هذا في البلدان التي يمثل فيها المسلمون 85 في المائة من مجموع السكان، مثل مصر، أو 100 في المائة تقريبا، مثل تونس.

وقد دفعت الأحزاب الإسلامية ثمنا باهظا، من الناحية الآيديولوجية، لتحولها إلى النظام الذي كانت ترفضه دائما باعتباره نظاما «غريبا».

ومن المؤكد أن أحدا لا يعرف ما إذا كان الإسلاميون العرب قد قبلوا بالفعل قواعد اللعبة الجديدة أم لا، فربما كانت تلك خطوة تكتيكية من جانبهم إلى أن يتمكنوا من إحكام قبضتهم على السلطة، والتاريخ حافل بأمثلة عن الذئاب الذين تنكروا في زي حملان، فقد وعد الإسلاميون في إيران، على سبيل المثال، بإجراء انتخابات حرة قبل 3 عقود، ولكن بمجرد أن أصبحوا في السلطة، فإنهم لم يوافقوا قط على خوض الاختبار.

ومع ذلك، لماذا لا نظل حذرين، ونعطي الإسلاميين العرب، في نفس الوقت، فائدة الشك؟ فإحدى القواعد السياسية المهمة هي أن ما يهم هو ما يفعله الناس، وليس ما يعتقدونه؟

والشيء الثالث المهم الذي حدث هو أن الدين، الذي من المفترض كما يدل اسمه، أن يربط الناس معا، قد ظهر باعتباره عاملا من عوامل الانقسام في السياسة، فليس من قبيل الصدفة أن يكون لدينا، في كل مكان، من المغرب إلى اليمن، العشرات من الجماعات المتنافسة باسم الإسلام، حيث يوجد في العراق، على سبيل المثال، أكثر من 30 جماعة تدعي أنها ممثلة لـ«الإسلام الحقيقي».

ولكن لحسن الحظ، فإن ما يهم في اختبار الانتخابات، هو ما يعتقده الناس في تلك الأحزاب، وليس ما يعتقدونه هم في أنفسهم.

والتطور الثاني المهم هو أنه تم دحض أسطورة الفوز بالسلطة عن طريق الكفاح المسلح، سواء أكان ذلك الكفاح باسم الدين أو باسم الفكر العلماني، حيث كان حسن البنا، على سبيل المثال، وهو مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، يتحدث عن «البندقية والخنجر» بوصفهما أسلحة جماعته، ومع ذلك لم تمكن تلك الأسلحة الإخوان المسلمين، طوال العقود الثمانية التالية، من الحصول على موطئ قدم لهم في السلطة، ولكن، قد ينتهي الأمر الآن بقيام الإخوان المسلمين بتشكيل حكومة ائتلافية في القاهرة.

وينطبق الشيء نفسه على جماعة التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية الأكثر راديكالية، اللتين كانتا تستخدمان الإرهاب النفسي والجسدي على مدى عقود دون أن تتمكنا من الوصول إلى شيء سوى الذهاب إلى السجن، حيث أصبحتا هما الاثنتان أيضا تستعدان للحصول على مكان في المشهد السياسي في مصر الجديدة.

وقد وجد كل من لواء فيلق البدر وجيش المهدي، في وقت سابق في العراق، أن السلطة لم تخرج من فوهة البنادق التي قدمتها لهم طهران، بل من صناديق الاقتراع التي تملأها أصوات الناخبين العراقيين.

وأخيرا، فإن الانتخابات الأخيرة تظهر أن السياسة العربية، على الأقل في البلدان المعنية، قد بدأت عملية تطبيع، فالسياسة، كما حددها أرسطو، والدها المؤسس لها، والمعروف لدى المسلمين باسم المعلم الأول، هي فن حل مشاكل المجتمع، وبالتالي فهي تتمحور في المقام الأول حول عدد محدد من القضايا هي: الأمن، والإدارة، والتعليم، وحماية الحريات الفردية والكرامات، والإنتاج الاقتصادي، ورعاية المرضى وغير القادرين، والفصل في الخلافات التي تنشأ بين المواطنين، والدفاع ضد العدوان الأجنبي، والتي يمكن وصفها بعبارة أخرى بأنها القضايا السياسية الرئيسية.

وقد حرم العرب، على مدى العقود الماضية، من ممارسة السياسة بهذا المعنى، حيث كانت تهيمن على سياستهم المفاهيم المجردة، مثل الوحدة العربية، والمجتمع الإسلامي المثالي، وإحياء الخلافة، والأشكال المتنوعة من الـ«يوتوبيا» التي يتخيلها اليساريون، ولم يكن الأمر يتطلب، لدخول معترك السياسة، سوى أن يرفع المرء قبضته في وجه هذا أو ذاك متوعدا إياه بـ«الموت»، أو أن يهتف بـ«حياة» هذا أو ذاك من المستبدين.

وفي أغلب الأحيان كانت السياسة العربية تتسم بقدر كبير من عبادة الشخصية، حيث قمت من خلال إحدى زياراتي إلى العراق في منتصف السبعينات، بإجراء اختبار غير علمي خرجت منه بنتيجة بسيطة هي أن السياسة العراقية تعني غمر صدام حسين بعبارات الثناء، لأن ذلك هو ما كان الجميع يفعله، بدءا من سائقي السيارات الأجرة، وانتهاء بالوزراء، على الرغم من أنهم كانوا جميعا يكذبون.

وهكذا فإن جوابي على سؤال «ماذا نحن فاعلون؟» الذي يطرحه أصدقائي الغربيون، هو أن يقوموا ببساطة بأخذ نفس عميق! حيث لا ينبغي اعتبار العرب مجرد أشياء تستخدم في صنع التاريخ، فقد أظهرت الانتفاضات العربية أن العرب يرغبون في أن يكونوا هم من يصنع التاريخ، وقد أصبحت الفرصة متاحة أمام الكثير من العرب الآن للسيطرة على مقدراتهم للمرة الأولى.

وعلى الرغم من أنهم حتما سيخطئون وسيدفعون ثمن هذا الخطأ، فإن التشاؤم في هذه المرحلة المبكرة جدا من بداية هذه الملحمة سيكون بمثابة قتل اللاعبين حتى قبل أن يبدأوا اللعب.

ونظرا لأن التاريخ لا يكتب مقدما، فإن المرء لا يمكنه أن يكون متأكدا مما سيحدث خلال الشهور المقبلة، ناهيك عن العقود المقبلة، ولكنني أنا شخصيا في الوقت الحاضر، لا أملك سوى أن أظل متفائلا بحذر.