الكتاب الكبار والقراء الصغار

TT

تجولت في معرض بيروت للكتاب العربي (55) في وقت كان مليئا بباصات الصغار. وكان كل باص يحمل اسم المدرسة وهويتها ونزعتها وملامحها الفارقة بوضوح، أو في تحد. ولكن داخل الأجنحة نفسها، وفي طيات الكتب، كانت بيروت مختلفة تحاول أن تقدم نفسها لصغار القراء. بيروت حاكت صورتها ألوان التجاور والأقلام الآتية من كل مكان، لكي تذوب هنا تحت راية بيضاء واحدة مثل ديمة في السماء لا بساط في الأرض.

كتاب الدكتورة خالدة سعيد، «يوتوبيا المدينة»، (الساقي)، يعيد رسم العقود الذهبية حول عنق المدينة. تستعيد بروح رفرافة سامية ونبل فائق الشفافية، صور الذين طرزوا فسيفساء الحداثة. وفي رقي متساو تعامل دور حركة «شعر»، ودور سهيل إدريس، صاحب «الآداب»، الذي تصدى للحركة على أنها عمل عدائي في حق التراث. تظهر خالدة سعيد بعد غياب، لتقول لنا بخفة الفراشات، إن عظمة بيروت في أنها تركت ضيوفها يحفرون صورتها من جديد. إليك فقط هذا النموذج الصغير: زوجها أدونيس، وشقيقتها سنية صالح، وزوج شقيقتها محمد الماغوط.

الذين جعلوا من بيروت أغنية عربية (يا ست الكل، يا سيدة الدنيا يا بيروت) هم الفرسان القادمون من سوريا وفلسطين والعراق. ولم يكتف مؤرخ المدينة، سمير قصير، الآتي من سوريا وفلسطين معا، بأن حولها إلى ملحمة، بل أحبها حتى الشهادة الأخيرة، شهادة الروح بعد شهادة الحياة.

لا يشبه المعرض زواره الصغار بقدر ما يشبه رواده الكبار، يوم أعلامه (كتاب الدكتور مروان إسكندر عن بيروت) الماليون من فلسطين وأعلامه الأكاديميون أيضا، أو يوم آل صايغ، عائلة بأكملها، تتصدر حركة النهضة السياسية والشعرية. الرجل الأكثر حماسا لفكرة «اللبنانية»، جاء من سوريا، وكان اسمه يوسف الخال. وأبرز مفكري «اللبنانية» في أي عصر، كان اسمه ميشال شيحا، وقد جاء من حمص.

كان لها صورتان، بيروت، تحت هذا المطر الموحل: صورة الكتاب الكبار وصورة القراء الصغار، مدفوعين ضمن قوالب مرصعة بالقلق والرفض. صورة المدينة التي دمرها أهلهم على صخور الجهل ويرسلونهم اليوم لتلمس بقاياها قبل الاندثار الأخير. أشحت بنفسي عن رؤية هذه العروض وانصرفت إلى كتاب خالدة سعيد، عن مدينة عرفناها في زمن واحد، كان فيها أطفال المدارس يعتقدون أن نزار قباني جارهم، ومحمود درويش ابن عمهم، وأن ذلك النحيل الضئيل الذي يكاد يقع، ما هو إلا قيثارة مقنعة في شكل رجل يدعى بدر شاكر السياب.