الإسلام السياسي والديمقراطية

TT

الظاهر الآن في المشهد المصري اتجاه تيارات تنتمي إلى الإسلام السياسي للفوز مجتمعة - من دون تحالف معلن أو مقصود حتى الآن - بعدد معتبر، ربما يشكل أغلبية عمل في برلمان ما بعد شبه الثورة (أو الناقصة - المتعثرة - المجهضة، أو المختطفة).

لا يملك مؤرخ إلا الانزعاج خشية تكرار التاريخ أحداثه المأساوية، من أمثلة لتيارات آيديولوجية مكنتها ظروف اجتماعية أو اقتصادية صعبة من الفوز بالأغلبية في الانتخابات، فأسرعت بتوجيه الضربة القاتلة إلى وسيلة الوصول للحكم نفسها، خاصة بعد فقدان الناخب للذاكرة، لأن المرجع الآيديولوجي أو المنهل الفكري لهذه التيارات والأحزاب يرفض الديمقراطية كنظام وضعي.

الحزب النازي بزعامة أدولف هتلر وصل إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية في 1933 ليذبح الديمقراطية. أدى فقدان الذاكرة الجماعي بالمثقفين إلى تحليلات وخطاب أقنع غالبية الشعب الألماني بأن محرقة الكتب التي تشمل المعارف الإنسانية والفلسفة كانت خطوة باتجاه إنقاذ الأمة من ورطتها الاقتصادية ومقاومة الانحلال الأخلاقي، مرجعين أسبابه للفنون والإبداعات والموسيقى التي رفضتها المرجعية الفكرية للحزب.

وكان من السهل إقناع الشعب إما بقبول، أو بالتغاضي عن، الخطوة التالية وهي محرقة ملايين البشر لاختلاف عقيدتهم أو عرقيتهم أو إصابتهم بعاهات جسدية أو مجرد رفضهم الإيمان بالآيديولوجية التي اختارها الحزب الفائز؛ وتلتها خطوة إحراق الأخضر واليابس في حرب عالمية أهلكت الملايين ودمرت ألمانيا نفسها.

أي إنسان في كامل قواه العقلية يدرك أن الألمان، وهم من أذكى شعوب الأرض، كان مستواهم التعليمي والمعرفي وقدرتهم على التحليل المنطقي وقتها يفوقان مستوى تعليم معظم شعوب أفريقيا والشرق الأوسط اليوم، ناهيك عن فقدان الذاكرة والغيبوبة الذهنية التي يعيشها مثقفو جيل وزارة التربية والتعليم، الذي لم يكتف بتدمير مخزون المعارف، بل استأصل موهبة التحليل النقدي التشكيكي من عقول جيل ما بعد انقلاب 23 يوليو (تموز) 1952.. فما بالك بآيديولوجية يجادل مستغلوها سياسيا، ناخبين متدينين بطبيعتهم، بأنها من وحي رسالة سماوية أنزلت من السماء لا يجوز التشكيك في صحتها وقدرتها على حل أي مشاكل في أي زمان ومكان؟

ما يزعج المؤرخين أنه لا يوجد نموذج واحد في العصر الحديث لتيار إسلام سياسي آيديولوجي وصل إلى الحكم ولم يدمر الاقتصاد، ويعود بالمجتمع إلى عصور الجاهلية والقرون الوسطى، ويقضي على حرية الفرد في اختيار المأكل والملبس وأسلوب الحياة والفنون التي يستمتع بها ونظام التعليم؛ كما ينهي المساواة التي تضمنها الدساتير المتحضرة ويحول الأقليات إلى مواطنين درجة ثانية، ويعطل القدرات الإنتاجية والإبداعية لنصف المجتمع من النساء.. وأحيانا يخوض الحروب مباشرة أو عن طريق جماعات إرهابية.

وحزب رجب طيب أردوغان خارج هذا السياق، لأن وضع تركيا تاريخيا يختلف عن أفغانستان وباكستان وإيران. فالحزب لم يشترك ضمن عملية ثورية عند تأسيس الدولة على يد كمال أتاتورك، أو في صياغة دستور لم، ولا، ولن، يعمل، بعد 85 عاما على تغييره وإحلال الشريعة محل القانون.

السلفيون (واسمهم انتخابيا حزب النور!!) لا يخفون هدفهم بفرض نظام اجتماعي لا يختلف عن نظام كهنة إسبانيا وصكوك الغفران، لكن ليس في متناولهم تغيير القوانين برلمانيا إلا في حالة تحالفهم مع «الإخوان» (حزب الحرية والعدالة التفافا حول عدم دستورية الأحزاب الدينية والطائفية) المتوقع فوزهم بمقاعد برلمانية تفوق أي حزب آخر؛ ولهذا يتوجس المؤرخون من الجماعة أكثر من السلفيين.

وعبارة «الديمقراطية كقبقاب ندخل به الحمام لقضاء الحاجة» تكررت على ألسنة نشطاء الإسلام السياسي حتى في بريطانيا، والحمام يعني الحكم، والحاجة تحقيق الأهداف غير المعلنة. في مناقشات الجماعة في الأربعينات ظهر تيار «التقية» منتقدا عنف التنظيم السري، ناصحا بالانخراط في المشهد الديمقراطي الحزبي التعددي تحت لافتة غير دينية لدخول الحمام بقبقاب الانتخابات. وحسمت أوامر مؤسس الحركة الجدل عام 1948 (بتعليمات «خلصونا من هذا القاضي») لصالح التنظيم السري، فاغتال القاضي الخازندار. فالعقل المدبر والمؤسس رفض قبول الديمقراطية، ولو مؤقتا، بالتخلص من قاض حكم بحبس مفجري القنابل لخرقهم قانون البلاد «الوضعي» الذي يرفضه من يحتكر لنفسه التفسير الدنيوي للقانون الإلهي.

وكمؤرخ يواجهني احتمالان:

الأول أن الجماعة، في مناقشات داخلية لم تنشر بعد، راجعت تاريخ صدامات انتهت بحظرها، فاختارت براغماتية «التقية» للفوز «بالقبقاب» ثم كتابة دستور يحقق حلم مؤسسها بتأسيس الجمهورية الإسلامية الثانية في المنطقة ببرلمان وانتخابات داخل إطار ضيق يضمن السيطرة الشمولية وفق المرجعية الأصلية. الجماعة استوعبت درس 1954 عندما طمعت في مقايضة دعمها السياسي لعسكر انقلاب 23 يوليو بثمن مرتفع، فخسرت معركة بدأها التنظيم السري برصاصات نحو الكولونيل ناصر في المنشية. في 2011 تترك الجماعة الدولة للمؤسسة العسكرية باقتصادها المستقل، وتفوز هي بالحكومة، وتعيد صياغة المجتمع والاقتصاد المدني والثقافة وفق رؤيتها.

الاحتمال الثاني أن الجماعة بدأت مرحلة تاريخية جديدة بقبول الاختلاف، وفكرة أن يقصيها الناخب عن الحكم في صناديق الاقتراع وفق قوانين «وضعية» كالحزب الديمقراطي المسيحي في أوروبا. الفجوات المنطقية في هذا الاحتمال أكثر اتساعا من أن يعبرها العقل والأدلة التاريخية. الديمقراطيون المسيحيون يخوضون الانتخابات من دون أن نسمع واعظا واحدا يدعو المصلين في كنيسته للتصويت للحزب وتحذيرهم بدخول جهنم إذا صوتوا لغيره.

الديمقراطي المسيحي لم يغير اسمه، بينما صحح مرشح «الإخوان» سؤالي، بانفعال إنكاري، قائلا إنه لم يعد عضوا بالجماعة وإنما مرشح «الحرية العدالة».

كما انقلب ترحيبهم بالزعيم التركي أردوغان إلى هجوم عندما ذكرهم بضرورة أن تكون الدولة مدنية - علمانية، وأن طريق الديمقراطية اتجاهان، فتسلمهم الحكم ليس حقا إلهيا، بل وظيفة يمنحها الشعب القادر على فصلهم منها، عبر صناديق الاقتراع، إن فشلوا كحكومة.

من غير المنطقي غياب البرنامج الانتخابي السياسي الواضح بالأرقام الذي يحاسب الشعب عليه حكومة «الحرية والعدالة». ففي أي ديمقراطية تعددية لا يوجد حزب واحد (حتى حزب الخضر بمقعد واحد في مجلس العموم له برنامج متكامل كحكومة) بلا برنامج يحدد سياسته الداخلية والخارجية والدفاع وسعر الفائدة والتعليم وتفاصيل الإصلاحات بالأرقام ومصادر ميزانيتها بوضوح مفهوم للعامة.

كما أنه لم يصدر عن الجماعة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو عبر أدبيات، ما يشير إلى وجود مناقشات ونشاط فكري وعملي داخل الجماعة نفسها أدى إلى رفض استراتيجية التنظيم السري والاغتيالات، أو حتى مراجعة الفترة من 1930 - 1954، ناهيك عن الاعتذار لأسر وأقارب وأحفاد ضحايا هذا التنظيم السري، مثلما فعلت مثلا منظمة الجيش الجمهوري الآيرلندي عندما أدارت ظهرها للإرهاب ودخلت العمل السياسي.

وما زلت أراقب التطورات بعدسة التاريخ.