«الإخوان المسلمون» بين الحلم والكابوس

TT

أرسل القارئ الليبي ياسين الزوي معاتبا، بعد مقالي الأخير حول تشكيل الحكومة الليبية بأقل المعايير، قائلا إن السياسيين الليبيين الحقيقيين لم يظهروا بعد، وإن ما حدث حتى الآن في ليبيا هو مجرد تسخين للملاكمة.

لا شك عندي في ذلك، فمن العبث أن يسقط نظام عسكري ديكتاتوري ليأتي بدلا منه ثوريون تحت ابتزاز التسلح، ثم نظن أن هذا ما سقط نظام القذافي من أجله، لكن مستقبل أي دولة في النهاية يقرره أبناؤها، ليس في ليبيا وحدها، بل إن كل بلدان الربيع العربي بثوراتها الناعمة والخشنة لن تحظى بواقع سياسي حقيقي خلال الانتخابات الحالية. ما يحصل الآن هو «توضيب» ما بعد الزلزال، واندفاع شعبي في الاتجاه المعاكس لاتجاه الأنظمة الراحلة، حتى وإن كانت القوى التي أمسكت بالسلطة معروفة لدى الناس ولها حضورها على الساحة السياسية.

في مصر، على سبيل المثال، منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين قبل قرابة قرن من الزمان، والإخوانيون يمسون ويصبحون في رجاء الجلوس على كرسي السلطة، عملوا المستحيل؛ خاصموا وصالحوا، استعدوا وهادنوا، تلونوا بكل ألوان الطيف، بنوا لهم فكرا وثقافة وصوتا في الشارع، ومع ذلك لم يحصلوا على الكرسي. أما اليوم فهم بلا أدنى بذل أو عمل يفترشون الوثير الذي نسجته لهم الثورة. إنها مفارقات القدر.

المفارقة الأخرى الجديرة بالاعتبار أن بعض المصريين ممن لا أيديولوجيا محددة لهم؛ لا إسلامية ولا يسارية ولا ليبرالية، وهم بالمناسبة يمثلون الأغلبية الصامتة.. بعض من هؤلاء لم يترددوا في أن يمنحوا أصواتهم لحزب الحرية والعدالة الإخواني.. سألت أحدهم - وهو زميل - عن سبب هذا الاختيار التلقائي، فقال إن «الإخوان» هم الفريق الأكثر تنظيما، نعرفه ويعرفنا، ونسمع شعاراته منذ سنوات ولم يأخذ فرصته في تجربتها، لذلك هو الأقرب على الأقل ظرفيا، كما أن الناس يشعرون بالملل من واقع طال عليهم، ويريدون أن يعيشوا تغييرا كبيرا.

هذا الرأي لا يختلف كثيرا عن رأي الإنجليز والفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية، فعندما أنهى القائدان المنتصران تشرشل وديغول مهمتهما قوبلا برفض الناس لهما في أول انتخابات في بريطانيا وأول استفتاء شعبي في فرنسا عقب الانتصار، ليس نكرانا لنضالهما الوطني أو قدرتهما العسكرية، بل هو ضيق من استمرار مزاج الحروب وعسكرة الأفكار، فانهزم البطلان في ساحة المعركة الشعبية. قد تكون الأسباب متعددة، ولكن الأكيد أن على رأس هذه الأسباب جنوح الناس للتغيير.

إنما السؤال الذي يشغل المراقبين اليوم هو: هل ستكون السلطة نعمة أم نقمة على «الإخوان»، وهل سيعيش الحزب حلما أم كابوسا؟

ربما لو أتيح لـ«الإخوان المسلمين» في فترة النظام المصري السابق أن يعيشوا واقع انتصارهم في الانتخابات كأغلبية برلمانية لكانوا استمتعوا بأجواء الحكم التي حلموا بها عقودا طويلة، لأن مشكلاتهم كانت أقل تعقيدا، فلا يوجد منافسون بصحة شعبية طيبة، لا من السلفيين ولا الليبراليين، وسيكون بمقدورهم الفرار من المواجهة في الأمور الشائكة كالعلاقات الخارجية وحريات الأفراد لأن نظام مبارك، أي الرئاسة، سيكون شماعة مناسبة للتملص من تطبيق شعار «الإسلام هو الحل». لكن من سوء حظهم أن الفرصة جاءتهم في فترة صعبة من التنافس المفتوح بين وجوه شرسة، بعضها جاء من العدم، وبعضها كان كامنا داخل مصر وخارجها، فاستفاق نشيطا ومتأهبا، وسينتظر بلهفة أي إخفاق لـ«الإخوان».

لم تعد لـ«الإخوان المسلمين» شماعة ولا مخرج جانبي، ولا مناص لهم سوى تنفيذ كل شعاراتهم التاريخية التي جلبت لهم أصوات الناخبين.

عجائب القدر ستتعاظم في المستقبل بمصر.. سنشهد أشواطا من اللعب السياسي لم تكن متوقعة، وستأخذ التجربة المصرية في الممارسة السياسية بعدا أكثر نضجا وأوضح رؤية للناخب بعد الانتخابات الحالية.. ربما نرى الليبراليين يقفون في المنتصف بين «الإخوان» والسلفيين، عكس ما هو متوقع من مواجهة حتمية بين الليبراليين والإسلاميين. لا يعرف الإخوانيون أي لعنة جلبت عليهم السلفيين في هذا التوقيت، وكأنها فرحة ما تمت، فالاختلاف بين العقيدتين اختلاف واسع يكاد يجعلهما في موقع الأضداد. ومع الشكوك التي تملأ الكثير من المصريين من قدرة الإسلاميين على قبول واقع الدولة المدنية بكل متطلباتها التي تخالف أساس عقيدتهم السياسية، فإن هذا الجانب سيكون هو السيف الذي سيسلطه السلفيون خاصة والمعارضة بالعموم على رقاب «الإخوان».. إنه امتحان صعب في دولة مثل مصر، فهي ليست مثل السودان الذي لم يعبأ بمشكلاته أحد حتى شق جسده إلى جزءين.. مصر دولة محورية، ودورها الذي تركته لا يزال ينتظرها، ولن يقبل شعبها الذي تذوق طعم الثورة، ولا يزال يستطعمها، بأن يقمع تحت أي شعار حتى وإن كان إسلاميا.

[email protected]