باب مكتبي مفتوح على مصراعيه

TT

من عاداتي السيئة وغير المفهومة، أنني إذا أردت الكتابة لا بد أن أغلق الباب على نفسي بالمفتاح حتى لو كنت بالبيت وحيدا ليس عندي لا إنسي ولا جني ولا حتى ناموسة.

وقبل أسبوع أغلقت على نفسي باب مكتبي كالعادة، ولم يكن هناك أحد غيري بالمنزل، حيث إن أهل بيتي جميعهم ذهبوا للطائف لمدة يومين، فأخذت أرقص وأغني.

وفي اليوم التالي وبعد أن مكثت في مكتبي لمدة ثلاث ساعات أو تزيد قليلا، في جو لا يخلو من التفكير والموسيقى والسعادة وانشراح الخاطر، قررت أن أتوقف عن القراءة والكتابة وأن أخرج لقضاء (حاجة في نفس يعقوب)، وما إن أدرت مفتاح الباب حتى (عصلج).. أدرته مرة ثانية ذات اليمين وذات الشمال غير أنه (تربس) أكثر، وشددت عليه بكل ما أعطاني الله من قوة، وانصدمت؛ بل إنني انفجعت حينما وجدت المفتاح ينكسر إلى شقفتين، إحداهما بيدي والأخرى داخل الفتحة، فأصبحت في موقف لا أحسد عليه، بل إنه موقف يتمناه لي كل أعدائي، وما أكثرهم، والمشكلة أن نافذة المكتب كانت مؤطرة بالحديد الذي اخترته أنا من (الفولاذ) المبروم، وأصبحت كالعصفور المنتوف الريش الذي يتقافز في قفص محكم الإغلاق.

ولأول مرة أحس بقيمة (الحرية)، ولأول مرة كذلك أتعاطف مع كل مساجين العالم؛ بمن فيهم (مانديلا)، ولأول مرة أخرى أحتاج إلى (ونيس) يشجعني ويشد من أزري.

حمدت ربي أن تليفوني الجوال لا يزال معي، فأخذت أحضنه وأقبله لا شعوريا، وأول ما خطر على بالي أن أتصل ببوليس النجدة، غير أنني استبعدت هذه الفكرة في آخر لحظة، خوفا من الفضيحة والشماتة.

فاتصلت بجار لي يبعد عني بسبعة أو ثمانية منازل، ومن أول ما قلت له: السلام عليكم، وقبل أن أبدأ الكلام والشرح، إذا به يقول لي بصوته المتحشرج الأجش: أرجوك إنني الآن على عتبة الدخول للمسجد، ثم أغلق الخط بوجهي، ولم أيأس، فعاودت الاتصال به مرة ثانية، وتناهى لي صوت التسجيل السخيف قائلا: عفوا إن الهاتف المطلوب لا يمكن الاتصال به الآن.

فازداد خوفي، وازداد (تحرقصي)، فاتصلت بشخص آخر توسمت فيه الشهامة، رغم أنه يبعد عن منزلي بعدة كيلومترات، وإذا بزوجته الباردة ترد علي قائلة: آسفة إنه غير موجود، وقد نسي (جواله) عندي، ماذا تريدني أن أقول له عندما يرجع؟! قلت لها وأنا أكاد أنفجر: إنني مسجون، فسألتني بكل سذاجة وبلاهة: في أي سجن أنت الآن؟! فأغلقت الخط بوجهها مثلما أغلق جاري الخط بوجهي.

فعقدت العزم على أن أكسر الباب، ولكن كيف وبماذا أكسره؟! فتناولت تمثالا من البرونز لراقصة بالية كان يزين مكتبي، وأخذت أخبط به على (أكرة) الباب بعنف وهمجية، ومن حسن حظي أن العامل المنزلي لم يذهب معهم للطائف، فأتى مهرولا عندما سمع التخبيط مصحوبا بصراخي الذي يكاد يصل إلى عنان السماء، فساعدني هو من الخارج على كسر الباب.

وما إن استنشقت هواء الحرية وكأنني ولدت من جديد، حتى انطلقت ركضا (كشيبوب) إلى دورة المياه، دون أن أرد على العامل وهو يسألني بكل براءة: إيش في يا عمي؟! شوية شوية، انتبه على نفسك لا (تتزحلق).

فقررت من اليوم وطالع أن أكتب وباب مكتبي، بل وباب منزلي مفتوح على مصراعيه.

[email protected]