انتخابات كويتية صديقة للبيئة!

TT

الأسبوع الماضي ودع الكويتيون المجلس (البرلمان) الثالث عشر في مسيرتهم الطويلة نحو الاستقرار، إلى التحضير لانتخابات المجلس الرابع عشر، إثر دوامة سياسية اختلط فيها الصحيح بالخطأ، القول الحق بالقول الباطل. في مثل هذا الوقت يتذكر المراقب الحكمة المنسوبة لآينشتاين عندما سئل من هو الغبي، فقال الغبي هو الذي يفعل نفس الشيء بنفس الطريقة، ويتوقع نتائج مختلفة! من هنا وحتى لا أقع في مفهوم آينشتاين للغباء، أقول إن نفس النتائج تقريبا التي أنتجتها الانتخابات الكثيرة السابقة في الكويت، سوف نلقاها من الانتخابات القادمة، لن يفاجأ المتابع بشيء جديد، ربما تختلف بعض الوجوه، أما المحصلة فهي نفسها، حيث إن المشكلة الهيكلية في العمل السياسي في الكويت لم تحل حتى الآن، هي أجلت فقط إلى حين، قبل أن ندخل من جديد في دوامة من العمل السياسي المعطل للهمم والتنمية في آن واحد.

هذا الاختصار يحتاج إلى شرح.

القضية السياسية في الكويت مصابة بمشكلات هيكلية، إن لم تحل تلك المشكلات، فإن الدخول في دوامة أمر لا مفر منه، أهم نتائجها تعطيل التنمية وتفاقم التناحر السياسي، وهي (أي المشكلة الهيكلية) في تقديري تتلخص في ثلاث قضايا:

القضية الأولى هي الدستور، فقد شاخ الدستور الكويتي، وأصبح في بعض مواده عبئا على العمل السياسي، ولا يستطيع عاقل أن يبرر أن وثيقة سياسية كتبها بشر يمكن أن تكون صالحة بكل مفرداتها إلى ما بعد نصف قرن من التطور البشري، لقد تغيرت الكتلة السكانية الكويتية، كما تغيرت المفاهيم والقيم، كما تغيرت مطالب الناس ووعيهم، وأن تصمد وثيقة لكل هذه السنين فهناك لا شك خطأ ما، علما بأن الآباء المؤسسين قد تنبهوا لذلك، فنصوا في الدستور نفسه على أن يعاد النظر فيه بعد خمس سنوات من تطبيقه، ولم يكن أي منهم يسمح له الخيال لتصبح الخمس سنوات، نصف قرن كامل!. العالم كله يتغير، وكل المجتمعات التي وضعت وثائق دستورية أعادت النظر فيها، ولن نذهب بعيدا فهناك من اليمن إلى العراق ومن المغرب إلى مصر، تكتب دساتير جديدة أو يعاد النظر في القديمة لتتمكن من تضمين المصالح والرغبات المستجدة لشعوبها مع ضبط في الآليات بعد تجربة طويلة وأيضا متعثرة حتى تتواءم مع المتغيرات، هذا لم يفعله الجسم السياسي الكويتي، ولا أعتقد أنه سوف يفعله في القريب، فتبقى عقبة النصوص مع تعسف في النفوس تعمق عذاب التنمية الكويتية وتعطلها. القضية الثانية، قانون الانتخاب، أيضا لم يعد مواكبا للعصر، فإن الوصول إلى مقاعد البرلمان في الكويت اليوم يتم بأغلبية بسيطة ويحرم التمثيل الحقيقي للناس من الظهور إلى السطح، فلا بد من تطوير هذا القانون ليكون الانتخاب على مرحلتين، بحيث لا يحق لأي نائب الوصول إلى سدة البرلمان إلا بعد حصوله على نصف أصوات الناخبين على الأقل، تلك الخطوة تقلل من التقوقع القبلي أو الطائفي أو المناطقي المشكو منه بشدة، وتجعل المرشح يوسع دائرة اهتمامه إلى أكبر عدد من الناخبين، على تعدد مشاربهم، وتلك آلية نجحت في بلدان كثيرة تبنت الديمقراطية الحديثة كأداة للوصول إلى تنمية أفضل، في الكويت بنيت مصالح حتى أصبح قانون الانتخاب الذي لا يحقق أغلبية هو بحد ذاته تميمة متمسك بها. القضية الثالثة، التعددية، لا توجد ديمقراطية دون أن تصاحبها تعددية حقيقية وحديثة، سكوت المشرع الكويتي (حكومة ومجلسا) عن التفكير في هذا هو عوار تشريعي طال مداه وسبب الكثير من المعوقات، وما أعنيه بالتعددية الحديثة التي هي مصاحبة بالضرورة للعمل الديمقراطي، وجود منابر أو أحزاب وتكتلات ذات برامج سياسية، تخرج العمل السياسي الكويتي من الفردية التي صاحبته طوال نصف القرن الماضي، وعندما لا تتوفر التعددية بمعناها القانوني الحديث، كإنشاء الأحزاب أو المنابر، فإن المجتمع يخلق تعدديته كما عرفها، أي يلجأ إلى القبيلة والطائفة على هلاميتها السياسية وعلاتها الاجتماعية، من هنا تتعقد العملية الديمقراطية، وبدلا أن تصبح لحمة جامعة للمجتمع تكون سببا في تفرقه وضعفه. فلا حكومة تستطيع أن تواجه أجندة خمسين عضوا وكل واحد منهم له أجندته وأولوياته وفهمه للعمل السياسي، ستكون تلك الحكومة عاجزة عن العمل الجاد، همها الاسترضاء، وتلجأ إما للإغراء وإما للتهميش، وينتفي التوافق الذي هو سمة لا تفارق الديمقراطية.

تلك هي المشكلات الهيكلية الثلاث التي تواجه التطور السياسي في الكويت، وبقاؤها دون حل أو بقاء معظمها دون تغيير، فإن المتوقع في القريب أن تنتج نفس المشكلات التي عطلت المجتمع الكويتي، حتى الساعة، من النهوض بما يتوجب عليه النهوض به أولا في حل مشكلات المواطنين، وثانيا مواكبة العصر السريع الخطى. لقد تجاوز المجتمع الكويتي المدني، مجتمعه السياسي، يكفي أن نشير إلى أن الكويتيين هم ثلث من يستخدم وسائل الاتصال الحديثة (الجديدة) على المستوى العربي، وقد فاق وعي المواطن وعي كثير من السياسيين، كما تواجه البلاد تحديات في الداخل وفي الجوار غير مسبوقة، لا تواجه بالطرق القديمة. يرى قطاع واسع من الكويتيين أن الصراع السياسي في الكويت امتص الحيوية وأبعدها عن المبادرة، وبعد أن كانت الكويت في أول الصف الخليجي تراجعت إلى الخلف.

معضلة العمل السياسي الكبير في الكويت أن الصراع السياسي على السلطة، وهو أمر محمود في العمل الديمقراطي، تحول إلى عراك على الدولة، فاهتزت مؤسسات الدولة القضائية والتعليمية وحتى العسكرية وفقدت الدولة المبادرات على كافة الصعد، نتيجة تدخلات السياسيين الذين خلطوا ما بين التنافس السياسي، وبين هدم أسس الدولة.

أهم أساس للدولة هو سلطة القانون، واستقلال القضاء، حينما تجرى التضحية بالمعنى العام للدولة يسقط الوطن جريحا تصعب معافاته. من هنا تأتي أهمية ما يسمى في الأدبيات العامة لعلم السياسة، برجل الدولة، وهو الشخص، أو الأشخاص الذين ينظرون إلى الغابة لا إلى الشجرة، أي ينظرون إلى مشروع بناء الدولة، الذي هو أعمق بكثير من الوصول إلى السلطة. بناء الدولة هو بناء المؤسسات خارج الأفراد ورغباتهم وهو أيضا الفصل بين السلطات والاعتراف بالتعددية في المجتمع مع تقنينها تقنينا حديثا، وعدم البقاء أسرى لتهديدات السياسيين لتعطيل بناء دولة حديثة. وحتى اليوم لم ينتبه الجسم السياسي الكويتي إلى بناء الدولة، لقد غرق الجميع في لجة التنافس السياسي المحدود والتكتيكات السياسية قصيرة الأمد والحصول على امتيازات شخصية أو فئوية محدودة بأشخاص وبزمن، وفاتهم الاهتمام بمشروع الدولة الحديثة، فتفرقت السبل وأعيد إنتاج الأزمات.

من هنا فإن انتخابات كويتية صديقة للبيئة الاجتماعية والسياسية لن تحصل دون التفكير في بناء الدولة وتحصين المؤسسات وإعادة النظر في النصوص، لأن صناديق الانتخاب التي هي وسيلة لغاية أكبر، أصبحت في الكويت هي الغاية كلها، وهي بالضرورة ليست صديقة للبيئة التي تبنى إقليميا ودوليا على أسس جديدة.

آخر الكلام:

انضم الزعيم السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف إلى جموع المحتجين الروس على نتائج الانتخابات الأخيرة في روسيا ووصفها بالباطلة، والاحتجاج برسم الديمقراطيات الحديثة، فإن كان التزوير الانتخابي يحدث في دول شبه متقدمة، فما بالك بالدول النامية؟!