إعادة ترتيب للأوراق

TT

مع استمرار تداعيات الأزمة المالية العالمية وتواصل آثارها السياسية والاقتصادية والتشريعية حول العالم، تظهر الكثير من النتائج الجانبية المهمة لكل ذلك، والتي ستؤثر على قطاعات مختلفة بشكل جذري.

فالعالم يركز بشكل أساسي على مراقبة كل تصريح أو تلميح من مؤسسات التقييم الائتماني بحق دول بعينها أو مصارف أو حتى مناطق جغرافية، في ما يخص الملاءة المالية أو القدرة الاقتصادية أو المخاطر بصورة عامة، وكل تخفيض في مكانة الدولة أو المصرف أو المنطقة أو التشكيك حتى في هذه الوضعية الحالية يكون بمثابة «الزلزال» الهائل في الثقة والسمعة، وتكون له تداعيات خطيرة للغاية.

ولعل أهم هذه التداعيات سمعة العاملين في القطاع المصرفي بصورة عامة، وحجم النكات والاستهزاء بهذه المهنة، وربطها بصورة ذهنية عميقة بالنصابين واللصوص، حتى إن القطاع الأعظم من عمليات النصب والاحتيال حول العالم في العقود الأخيرة ارتبط بشكل مباشر وصريح بمديري وكبار التنفيذيين في المصارف العملاقة حول العالم وموظفي البنوك المركزية في الدول التي تعمل بها.

ولذلك انحسرت نسب قبول العمل في المصارف، وأصبح العزوف عنها مسألة حقيقية، ويلجأ طالبو الوظيفة إلى التقدم للعمل بمجالات أخرى أكثر احتراما في نظر المجتمع وأقل إثارة للجدل، وهذا انعكس أيضا على التعليم العالي الجامعي الذي كان يتمتع بمداخيل هائلة وبربحية كبيرة جراء برامج الماجستير لإدارة الأعمال والمعروفة بشهادة الـ«MBA»، والتي كانت دوما مطمع الراغبين في الحصول على مراتب ووظائف مرموقة في القطاع المصرفي.

واليوم تشهد الجامعات الكبرى المعروفة عزوفا وهبوطا حادا في الانتساب لهذه الشهادة، مما جعل أكثر من جامعة تطلق برامج جديدة ومغايرة «بعيدة» عن التركيز على الشأن المصرفي، والاهتمام أكثر بمبادرات الأعمال والإدارة المسؤولة وتوظيف رأس الأعمال الفكري، مع استمرار خروج القصص المؤلمة والمفزعة لاختراق المال الفاسد والمريب في الكثير من الشركات الكبرى والمؤسسات المالية. وزادت هموم ومسؤوليات الأجهزة الرسمية الرقابية لوضع حد لما يحدث وإعادة الثقة. ولعل ما حدث في إحدى شركات تصنيع الكاميرات اليابانية المشهورة، وما قيل عن تجاوزات مالية مذهلة وخطيرة، ووجود تقاعس هائل من التنفيذيين بالشركة في السماح بأموال المافيا اليابانية بأن توظف وتستعمل وتستثمر بشكل غير مسبوق، مثال واضح على ذلك.

واليوم هناك حديث متجدد عن الكشف القريب عن شركات أخرى تم اختراقها من أموال المافيا الروسية والأوكرانية والصينية أيضا، وهو يذكرني بحديث لي مع مراسلة صحيفة «وول ستريت جورنال» خلال تحقيق كانت تجريه عن رجل أعمال عربي ملاحق قضائيا ويملك حصة مهمة في مصرف أوروبي معروف، وتم التحقيق بواسطة الشعبة الأمنية داخل البنك والمكونة من شخصيات نافذة في المجال الاستخباراتي كان معظمها يعمل في جهاز الاستخبارات البريطاني الرسمي، وقد أصدرت الشعبة تقريرا «تحذر» فيه من تملك الرجل في المصرف نظرا لوجود شبهة كبيرة في مصادر أمواله، إلا أن هذه الورقة كما أوضحت لي وقتها المراسلة «اختفت»، لكنها اليوم «ستعود» للظهور مع ظهور أدلة خطيرة بحقه تتعلق بقضايا التزوير وغسل الأموال المنظورة في أكثر من محكمة حول العالم.

العالم المالي يتغير، وهناك صراع آخر يتعلق بوضعية عملاته وأسواقه، فهناك صراع كبير داخل ألمانيا منقسم بين من يريد العودة لعملة «المارك» القديمة خلاصا من أعباء اليورو ومشاكل دوله، ومن يريد البقاء على «اليورو» وابتلاع المشاكل والصبر عليها لأن العودة للمارك تعني حصول تضخم مرعب ورفع التكلفة، وبالتالي الحد من القدرة التصديرية، وهي المسألة التي تعتمد عليها البلاد، مما يعني حصول بطالة مهولة وكوارث اجتماعية كبيرة.

كل هذه التغيرات تجعل من الشكل الاقتصادي الجديد للعالم يتكون بسرعة متغايرة، وسيخلق لاعبين جددا ويغيب آخرين، لكن ستكون الأهمية في الفترة المقبلة للمحققين والمحاسبين الذين سيكشفون الفضائح المالية للمصارف ومن يقف وراءها، حتى يعاد الاحترام والجدارة والثقة لقطاع تحول إلى نكتة وعار على الاقتصاد.