مثل رتق ثوب الزفاف

TT

بمجرد أن يحاول المرء الكتابة في الترجمة، أو عنها، يشعر أن المهتمين قلائل. ولذلك أتجنب التجربة على الرغم من شغفي القديم بفن كان جزءا جوهريا من عملي، قراءة أو كتابة. فالكثير من معرفتي بالعربية وفهمي لها واعتزازي بتفردها، استقيته من الدراسات الأجنبية. وفيما قصر اللغويون العرب أبحاثهم على النقل والنسخ وتكرار مصادر الرواة وتعدادها، انصرف الأجانب إلى روح اللغة وعبقريتها وسحرها البلاغي.

ويتخذ كثيرون من الترجمة موقفا تعسفيا ومتعنتا، نظرا لما تركت العربية من أثر في لغات العالم، كالإسبانية والأُردية، وفي هذا تغافل لما أخذت هي، من اليونانية والفارسية وسواهما، باعتبارها لغة حية متفاعلة مع الشعوب والأمم. وتعتبر الإنجليزية من الفخر أن نصفها مأخوذ من لغات أخرى، جله من لغة العدو الفرنسي القديم، والجار المقاتل.

كنت أشكك دائما في بعض ترجمات القدامى، اشتباها بأن ما وصلهم قليل. لكنني كنت أعرف أيضا أنني غير مؤهل لطرح هذه الشكوك، ولا للخروج باستخلاصات حاسمة، أو ثابتة. وقد وقعت الآن على بعض من أهم ما قرأت في هذا الباب منذ سنوات طويلة، كتاب «دراسات في الترجمة ونقدها» للدكتور محمد عصفور (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2009). وفي نحو 450 صفحة يستعيد الدكتور عصفور، أعمال كبار المترجمين العرب، في جدية مضنية. فليس من السهل أن تنقد ترجمات جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ من دون العودة المتأنية إلى ما عملوا. ولا إلى محيى الدين صبحي وعيسى الناعوري. ويلمح إلى أن الناعوري ترجم إزرا باوند وجعل اسمه الأول «عزرا» لكي يوحي بأنه يهودي. ويتوقف متأدبا عند ذلك، دون أن يكمل بأن باوند عاش فقيرا ومضطهدا بسبب معاداته للسامية. ولم تكن للأسماء في ظاهرها علاقة بدين صاحبها، خصوصا في أميركا، حيث اختلط «العهد الجديد» بـ«العهد القديم». وأكثر من ذلك؛ فقد عرف عن باوند حماسه لهتلر.

تفترض الترجمة معارف شديدة وصعبة: معرفة اللغتين، ومعرفة الحضارتين، ومعرفة المناخ المنقول. وليس هناك من ترجمة كاملة بل هناك مشروع قابل للتطوير باستمرار، كما يقول الدكتور عصفور، الذي يثير حفيظته أن دور النشر تكلف المبتدئين وغير الملمين. لكن هذا حال الكتاب العربي، موضوعا أو مترجما، فماذا يبقى للناشر إن هو اتبع الأصول من أجل تقديم عمل مترجم لا يهم الكثيرين؟ هل الأفضل إذن، إبقاء الأعمال الأجنبية مطمورة، أم نقلها بالقدر الكافي من المهنية؟ الجواب صعب وخال من الإنصاف في الحالتين.

يبدو عمل الدكتور عصفور دقيقا مثل إعادة مخطوطة قديمة إلى ما كانت عليه: سطرا سطرا وفقرة فقرة. وبعدالة واضحة. إنه لا يهدم صور عمالقة الترجمة مثل جبرا أو توفيق صايغ. لكنه يرتق الثوب بعناية الأم يوم الزفاف.