عمال وفلاحون وفئات.. أصل الخرافة

TT

بسيادة المنطق الصوري على عقول البشر في الحكم وخارجه، ومن أجل تحقيق ما نتصوره الديمقراطية، لا بد من وجود مجلس شعب أو مجلس أمة أو برلمان، سمه ما شئت، يجلس فيه ممثلون عن هذا الشعب يعبرون عن متاعبه وطموحاته، ويسنون له قوانينه، عندك عمال، لا بد إذن من أن يمثل عامل هؤلاء العمال. عندك فلاحون، لا بد إذن من أن يمثل فلاح هؤلاء الفلاحين. غير أن المجتمع فيه آخرون غير العمال والفلاحين، حسنا، لنطلق عليهم اسم الفئات، ولأننا عادلون لا بد أن نعطي الفلاحين والعمال نصف مقاعد البرلمان والنصف الآخر للفئات، وماذا عن المرأة.. آه نسيناها، لا بد من نصيب لها (كوتة)، أي نحدد لها عددا من المقاعد الإجبارية في كل الانتخابات. نتحرك الآن صوب التنفيذ، أي في اتجاه التفاصيل، والشيطان كما تعرف يكمن في التفاصيل، هنا ينشغل المجتمع كله بمفكريه ومنظريه والجالسين على مقاهيه في البحث عن تعريف للعامل والفلاح، وينتهي الأمر بالوصول إلى أن العامل هو من ينتخبه الناس لعضوية مجلس الشعب عن العمال، نفس الأمر ينطبق على الفلاح. ولذلك ستقرأ في اللافتات: «انتخبوا اللواء شرطة فلان الفلاني عن العمال».

عمليا لا يوجد فلاح قادر على دخول مجلس الشعب أو حتى يفكر في ذلك، والأمر صحيح أيضا بالنسبة للعمال. من أين يأتي إذن هؤلاء العمال والفلاحون الذين يدخلون مجلس الشعب ويخرجون منه؟ هؤلاء العمال والفلاحون الذين من الممكن أن يخسر البلد عدة مليارات من الجنيهات لإجراء إعادة في الانتخابات لأن حضرتك أخطأت عند الإدلاء بصوتك ولم تختر عاملا أو فلاحا، أو لأنك لم تختر شخصا من الفئات أو لأنك لم تراعِ «الكوتة» الممنوحة للمرأة. وأصل الحكاية، بمعنى أدق، أصل الخرافة، أنه عند القضاء على الإقطاع والرأسمالية بشقيها الوطني والمستغل، كان لا بد أن تستند ثورة يوليو (تموز) إلى طبقة جديدة تنشئها في أيام، طبقة عريضة تتكون من ملايين الأشخاص، تنافقها القيادة بكلمات التدليل الجميلة، فترد عليها بنفاق وتدليل أجمل، ثم تعبر عن إحساسها بالجميل بأن تحتشد في كل المناسبات هاتفة هادرة تلعن الإقطاع ورأس المال المستغل والرجعية والاستعمار وأذنابه، وعند نهاية موجة الشرعية الثورية والدخول في مرحلة الشرعية الدستورية كان من المستحيل أن تترك الفئتان في الشارع لخطورة ذلك على النظام نفسه، لذلك كان لا بد بقوة القانون أن يدخلا مجلس الشعب، ليس لتمثيل العمل والعمال والفلاحة والفلاحين، ولكن لخدمة النظام، من هنا لم تكن هناك ضرورة لأن يكون العامل عاملا، ولا الفلاح فلاحا. هكذا بدأت الخرافة في العمل النيابي في مصر، تعطيل المنطق العقلي البسيط وتغليب المنطق الصوري الذي ينتهي بك بانتخاب لواء شرطة عن العمال والفلاحين ولواء شرطة آخر عن بقية طبقات المجتمع، بعد خصم نصيب المرأة. المنطق الصوري فقط هو ما يحتم كل ذلك الإخلاص لظاهر الكلمات وليس معناها. ميدان العمل يفهم فيه ويدافع عنه العامل، شؤون الفلاحة يفهم فيها الفلاح، مشكلات المرأة تفهم فيها المرأة، ولكن لا أحد مد أفكاره على استقامتها لتتناول مشكلة الطفولة والأطفال في مصر، لأن ذلك سيحتم عليه أن يمثلهم «عيل» يتم انتخابه في البرلمان.

أسوأ أنواع التفكير هي تلك التي تستند إلى المنطق الصوري، وهي أيضا أكثرها انتشارا ونجاحا، عند بداية موجات التطرف الديني في مصر، وكانت أعداد ضحاياه بالمئات، استخدمت حكومة النظام السابق في محاربته كل ما يتيحه المنطق الصوري، هؤلاء الأولاد لا يعرفون دينهم، تعالوا نعلمهم الدين الصحيح، ومن ذلك، على سبيل المثال، إنشاء مجلة «عقيدتي»، وهو ما تلخصه المقولة القديمة.. وداوني بالتي كانت هي الداء، بالطبع كان لا بد أن ينتهي الأمر بعد أربعين عاما من اعتماد المنطق الصوري في مكافحة التطرف الديني، إلى استيلاء الجماعات الإسلامية في مصر على البرلمان بنسبة غالبة، بما يتيح لها أن تحكم المصريين جميعا.

أنتقل في قفزة سريعة إلى الحاضر؛ لماذا اختارت الجماهير المصرية في المدن والقرى والنجوع حزب جماعة الإخوان وجماعة السلفيين؟

الإجابة: اختار معظم المصريين هذه الأحزاب، ليس لأنهم «يريدونهم»، بل لأنهم لا يريدون الآخرين. إنها فرصة العمر أتيحت لهم أخيرا للانتقام من كل من كان موجودا على الساحة السياسية قبل ثورة يناير (كانون الثاني). هذه هي طريقة اللاوعي الجمعي في الانتقام ممن يتصورون أنه سبب لهم آلاما طويلة.

لست أطلب منك تصديق تحليلي لأسباب ما حدث، أنا فقط أطلب منك أن تلاحظ أننا جميعا كشعوب وجماعات، بل وكمفكرين ورجال سياسة، نجيد فقط الانشغال؛ ليس بما نريده، بل بما لا نريده. نحن فصحاء للغاية عندما نعبر فقط عما نكرهه، الناس لا تريد كل الوجوه القديمة حكومة ومعارضة بدافع من الكراهية. وحتى من نجح أو سينجح في الجولة الثالثة في الانتخابات من الوجوه القديمة، سيكون ذلك لأسباب أسرية وعصبية، العصبية في هذه الحالة قادرة على أن تلجم رغباته الدفينة الحقيقية.

إذا كان تحليلي صحيحا - بصراحة لست على يقين من ذلك - فإن الرئيس القادم لمصر سيكون الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، لأنه يحقق أهم شروط المنطق الصوري، وهو أن الشيء يمكن أن يكون وألا يكون في الوقت نفسه، هذا هو النموذج الجاذب للجماهير في مثل حالتنا، هو عضو جماعة الإخوان، وهو أيضا ليس عضوا في جماعة الإخوان بعد أن فصل منها. كعضو في الجماعة، سيحقق رغبتهم في استبعاد الآخرين، وكعضو مفصول من الجماعة سيحقق رغبتهم في الانتقام من هؤلاء الذين فصلوه.

الدكتور البرادعي على الرغم من كل مواهبه، وما يتمتع به من احترام داخل مصر وخارجها، وعلى الرغم من معارضته الواضحة للنظام السابق، فإنه في تقديري يظل غريبا في نظر اللاوعي الجمعي، هو قريب، هو من الأهل، هو عظيم، ولكنه لم يكن شريكا دائما لنا في الألم والمعاناة، لم يكن في حاجة إلينا، ولسنا في حاجة إليه الآن.

أما المرشحون للرئاسة من المثقفين، فهم محسوبون على النجوم، نجوم الثقافة والفكر والكاميرات والميكروفونات، كل كلماتهم محملة بأفكار ثقيلة جدا، لا أحد قادر على فهمها، كما لا يوجد في تاريخهم جميعا ما يشير إلى قدرتهم على شغل هذا المنصب. ليس في تاريخهم ما يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلينا يوما ما.. ونحن أيضا لسنا في حاجة إليهم.

يتبقى عمرو موسي، مارس العمل الإداري والقيادي طول عمره في مصر وخارجها، وكان آخر مناصبه هو رئيس الجامعة العربية. ولكني أعتقد أن الناس ستفكر في أنه لم يكن ضد النظام السابق بنفس الوضوح الذي كان عليه الدكتور البرادعي، وعلى أي حال، أتصور أن الجولات النهائية في الصراع على منصب الرئيس في مصر ستكون بينه وبين الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح. أو بين الثلاثة إذا أضفنا الدكتور البرادعي.