بانتظار الانسحاب الأميركي لتصفية الحسابات

TT

يوما بعد آخر، تتقلص المسافة نحو الموعد الذي يفترض فيه، أن يغادر الجنود الأميركان العراق طبقا لاتفاقية موقعة بين الحكومتين الأميركية والعراقية، وكلما تقلصت المسافة أكثر، تفاقم الإرهاب وتوسعت الهوة بين أطراف الصراع في العراق وازدادت التقولات والتكهنات والتوقعات بشأن الصورة التي يكون عليها العراق بعد الانسحاب المرتقب. وتكاد الآراء في معظمها تجمع على أن الوضع الذي سيسود العراق في العام المقبل، لن يبعث على الارتياح، رغم زعم حكومة المالكي بجهوزية القوات العراقية لحفظ الأمن والاستقرار، والذي، أي الزعم، يتقاطع مع ما صدر عن رئيس أركان الجيش العراقي، والعديد من السياسيين العراقيين، من أن الوقت ما زال مبكرا للحديث عن تلك الجمهورية. لذا فإن قلقا بينا يساور الجميع من تداعيات الانسحاب ويقوي من هذا القلق استعداد الفرقاء المتخاصمين من الآن للمواجهة بعد رحيل الأميركان. ليس هذا فحسب، بل إن حكومة المالكي في استباق منها للأحداث وجهت ضربة استباقية إلى المكون العربي السني بشنها لحملة اعتقالات واسعة طالت المئات من البعثيين السابقين وبالأخص في المحافظات ذات الغالبية السنية كما وفصلت العشرات من الموظفين السنة من عسكريين ومدنيين من دوائر الدولة. وباتهام حكومة المالكي لحزب البعث المحظور بالتخطيط لمؤامرة بغية قلب نظام الحكم ودعوته لهم إلى التبرؤ والتوبة من حزب البعث. فإن البعثيين وبقية الممثلين الآخرين للعرب السنة سارعوا بدورهم إلى التصعيد بتهديداتهم وحملاتهم الإعلامية ضد نظام الحكم، وكأن لسان حال الطرفين المقولة العراقية الشعبية الدارجة «قبل أن تتعشى بي أتغذى بك». ولا شك أن حملة المالكي على رموز العرب السنة لن تتوقف في المديين المنظور والبعيد، وستبلغ ذروتها في العام المقبل، ويعزز من هذا التكهن التقارب الشديد بين المالكي والتيار الصدري الأكثر تطرفا في معاداة تلك الرموز وفي مقدمتها البعث المحظور. من جانبه أصدر حزب البعث بيانا وذلك ردا على المالكي قال فيه: «إن باب التوبة مفتوح أمام المالكي ومن قبل أن يتم الانسحاب الكلي للأميركيين من العراق» أضف إلى هذا، الحراك السني لإعلان المحافظات السنية في غرب العراق أقاليم، والذي - أي الإعلان – هو بمثابة جزء لا يتجزأ من الضربة الاستباقية المنوه عنها ضد حكومة المالكي. ويعني تهديد البعث لحكومة المالكي ضمنا استقواء الأخيرة بالأميركان على مر الأعوام التي تلت سقوط نظام البعث لكن هذا القول يبقى ناقصا حين يغفل الإشارة إلى إيران التي كانت منذ الأيام الأولى لذلك السقوط سندا وداعما وقوة للنظام العراقي الجديد ذي التوجه الطائفي الشيعي، وإذا كان الانسحاب الأميركي من العراق في حكم المؤكد، فإن انسحاب النفوذ الإيراني من العراق - هذا النفوذ الذي يقوم على قاعدة اجتماعية شيعية عراقية عريضة - ضرب من الخيال. ثم إن القول إن حكومة المالكي كانت وحدها المستفيدة من الوجود الأميركي في العراق، ناقص بدوره، فلقد كان العرب السنة والكرد والتركمان والمسيحيون مستفيدين منه أيضا وبدرجات متفاوتة. وعند المالكي وحلفائه من التنظيمات السياسية الشيعية، أن المعارضين العرب السنة سواء المشاركون منهم في العملية السياسية أو الرافضون لها ممن حملوا السلاح بوجهها، هم أكبر المستفيدين؛ إذ لولا الأميركان وبحكم استحقاقهم الاحتلالي للعراق، إن جاز القول والذين جاهدوا لأجل إبقاء التوازن بين المكونات الاجتماعية الرئيسية الثلاثة: الشيعة والعرب السنة والكرد، لكان الشيعة يبيدون البعث وكل رموز العرب السنة من شخوص وكيانات سياسية في الأسابيع الأولى لانهيار البعث في عام 2003، ثم يلتفتون إلى الكرد والمكونات الاجتماعية الأخرى فيما بعد. وفي حال إتمام الانسحاب الأميركي فإن الصراع بين الطائفتين الشيعية والسنية سيبلغ ذروته وسيواجه السنة لا ريب أياما عصيبة، وستكون هزيمتهم أمرا مفروغا منه، إذا أخذنا في الحسبان، تشتت كلمتهم وتقاطع مواقفهم ورؤاهم مع بعضهم بعضا، وعجزهم عن كسب الكرد إلى جانبهم والذين - أي الكرد - في أكثريتهم الساحقة على المذهب السني. ومن جهة أخرى فإن الشيعة في العراق يكادون يكونون ضعف العرب السنة وهو كذلك، وإذا كان قد قدر للعرب السنة أن يحكموا العراق قرابة (82) عاما ويقمعوا كل المكونات الاجتماعية بما فيها المكونان الكبيران الشيعي والكردي فيقينا فإنه يكون بوسع حكومة المالكي تصفية خصومه من العرب السنة بسرعة مذهلة، إن لم تدخل إرادات على خط الصراع تكون في غير صالحها؛ صالح حكومة المالكي والطائفة التي يمثلها.

الكرد وحدهم كما يرينا إياه ظاهر الأمر، نجدهم يتعاملون مع قضية الانسحاب الأميركي بأعصاب جد باردة، وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، في وقت يعلم فيه الكل بالنيات المريبة بل والعدائية لحكومة المالكي تجاههم ومن قبلها حكومة الجعفري كذلك. وفوق هذا فإن الموقف الكردي الحالي يظهر خلوه من القلق من الانسحاب مما يفيد بأنه ينطلق من أرضية صلبة مثلما يفيد بذلك الموقفان المتعارضان للشيعة والسنة أيضا مما يستدعي من المرء شيئا من التأني في إصدار الحكم عليه؛ على الموقف الكردي، فبرودة الأعصاب الكردية وقولهم إن شيئا لن يتغير بالانسحاب الأميركي من العراق، بعد أن كانوا الأكثر إبداء للمخاوف من الانسحاب هذا وتحولهم فجأة وعلى حين غرة وكأنهم قد حصلوا على ضمانات تجعل من الانسحاب عديم التأثير عليهم، وبأن مكسبا عظيما سينتظرهم كأن يكون الاستقلال الحلم المشروع الذي يراودهم دوما.

وفي خضم الاستعدادات للمواجهة بين الفرقاء المتصارعين في العراق يتراءى أن طرفي الصراع الرئيسيين: المالكي والبعث، ومن خلال ما يبثانه في وسائل الإعلام من تهديد ووعيد يقفان على أرضية صلبة كل في مواجهة الآخر كما بينا، دع جانبا القول عن الثقة بالنفس لدى الجانب الكردي الذي يجاهد على الالتزام بالحياد وضبط النفس خلاف الطرفين المذكورين اللذين باشرا في الصراع الآن ومنذ أسابيع والذين يرى المالكي فيهم - أي الكرد - تناقضا ثانويا، كون التناقض الرئيسي بينه وبين البعث وكل الفصائل العربية السنية، وليس مع الكرد الذين لا يطمحون لإسقاط حكومته أي حكومة المالكي في حين يطمح البعث والمكون العربي السني إلى استرداد سلطة فقدوها. من طرف ثان يصعب جدا أن يتوحد الكرد والعرب السنة في جبهة ضد حكومة المالكي على الرغم من أن كليهما يدين بالمذهب السني، وأن المذهب بدأ يحل منذ سنوات محل القومية - الأمر الذي يؤسف له - ويبقى دخول المالكي في صراع - وهو حتمي - مع الكرد مؤجلا لعدد من الأسباب. فعلى النقيض من تقديم الحكومات العراقية السابقة كحكومة العهد الملكي والجمهوري الأول وحكومتي الأخوين عارف ضرب الكرد والشيوعيين على ضرب البعث والتيارات القومية العربية الأخرى، فإن حكومة المالكي تقدم ضرب العرب السنة على ضرب الكرد، هنا نجد هذه الحكومة متقدمة على الحكومات الجمهورية السابقة في تشخيصها للتناقض الثانوي والرئيسي، وتشخيصها الذكي هذا يقوم على كنز من التجارب في إسقاط الحكومات العراقية التي كانت القوى السياسية السنية تسقطها وليس الكرد أو الشيوعيين إلى جانب اعتمادها - أي حكومة المالكي - على ظهير قوي كإيران، وانتصارها على البعث والفصائل السنية كافة أمر لا يحتاج إلى دليل، وسيساعد على ذلك الانسحاب الأميركي موضوع البحث الذي لا بد وأن يطلق اليد للمالكي للفتك بالسنة وفيما بعد الكرد والأقليات القومية والدينية ويقوي من مركز إيران في العراق وفي المنطقة، وأغلب ظني أن العراق لن يعيش «ربيعا عربيا» إنما ربيع تفتيت وتقسيم.

* رئيس تحرير صحيفة «راية الموصل» - العراق