.. ومأزق الرأسمالية

TT

تعرضت في مقالتي السالفة إلى أزمة الاشتراكية، بيد أن للرأسمالية أيضا أزمتها. إننا جميعا مدينون للرأسمالية بهذا الخير والتقدم والمنجزات المدهشة في سائر الميادين. فسر هذا الازدهار هو أنها أطلقت يد الإنسان وعقله من كل القيود، وفتحت أمامه آفاقا لا نهاية لها لنيل كل ما يريد، أو على الأقل للسعي لنيل كل ما يريد. السلاح الأساسي لهذا المسعى هو الحافز. والهدف الأساسي للحافز هو الكسب والثروة. وبمرور السنين أخذ هذا الهدف يمحو في زحفه كل القيم التقليدية، بما فيها الإيمان الديني والقيم الدينية والأخلاقية. حاول المشرع أن يضع ضوابط لهذا السعي تحل محل القيم التقليدية فتصبح القوانين هي الحدود والروادع لمنع التجاوزات وحماية حقوق الآخرين.. فليس لك أن تسرق، لا لأن السرقة حرام أو عيب، وإنما لأن هناك شرطة تحبسك.

بيد أن الرأسمالية تعلمك استعمال عقلك وذكائك بصورة حرة وغير مقيدة. فسرعان ما تتعلم كيف تلتف على القانون وتتفادى الشرطة. وفي سعي الرأسمالي للكسب استطاع أن يغرس في النفوس الروح الاستهلاكية لشراء منتجاته التي ما انفك يقوم بتجديدها وتغييرها. من أين تأتي بالفلوس لهذا الهوس بشراء الجديد؟.. من تعاظم الحافز لتجاوز القانون، والاحتيال على الضريبة وعلى البنوك، والغش في العمل، والقيام بشتى الجرائم.

لا يؤمن بالله في الغرب الآن غير أقلية ضئيلة. لا يمارس العبادة في بريطانيا غير 3 في المائة من السكان. تحول الكثير من الكنائس الخاوية إلى مخازن ومراقص. تشير كل الدلائل إلى أن الغربيين سيتخلون عن الدين كليا بعد جيلين أو ثلاثة. حاول البعض استبدال قيم أخلاقية دنيوية بالقيم الدينية، لكن التجربة لم تفلح كما نرى. وباندحار الاشتراكية، ستخلف الرأسمالية مجتمعا من دون أخلاق. الحقيقة أنني كلما أرى فتاة جميلة تقوم بعمل مرهق ووضيع في مخزن، أتساءل: لم تضيع هذه الحسناء وقتها في هذا العمل بدلا من كسب المئات في البغاء في سويعات؟ لا شك أن وازعا أخلاقيا يمنعها. لكنني لا أشك أيضا في أن الرأسمالية ستوفق في الأخير في نسف ما تبقى من هذه الأخلاقيات المناقضة للسنن الرأسمالية.

يضطر بعض النساء في البلدان الفقيرة للبغاء بسبب الحاجة، ولكن من تمارس ذلك في الغرب تكون مدفوعة بالطمع والبطر والكسب. نسمع عن سيدات محترمات يخرجن مساء من بيوتهن العامرة ويتركن الأسرة وراءهن ليمارسن العهر، ويعدن بعد سويعات بشنطة مثقلة بالدولارات. وغدا الكثير من الرجال يمارسون شيئا مشابها في ميادين الأعمال.. يبذلون جهودهم في تجاوز القانون والالتفاف عليه لكسب الألوف أو الملايين.

يجري كل ذلك بسبب هذا التضخم المرضي في الحافز للكسب. وسيتعاظم هذا التضخم بتراجع الروادع الدينية والأخلاقية. أين سيكون مصير هذا المجتمع العظيم الثراء العديم الأخلاق؟ أفلا ينفجر في الأخير وينهار بفعل واحدة من سلسلة الأزمات المالية الخطيرة التي تصيبه من حين لآخر بسبب الجشع والتهالك على المزيد والجديد؟ هل ستعود الحياة لفكرة الاشتراكية كبديل أخلاقي يعيد إلى النفوس قيم الأخوة والتعاون والقناعة والاكتفاء بالضروريات واحترام العدالة؟