مصر: مجلس تشخيص مصلحة النظام!

TT

بينما يحاول المصريون الانتقال من شرعية الميادين إلى شرعية الانتخابات، نجد أن المجلس العسكري يقوض هذه الشرعية بالأقوال والأفعال بمجرد ظهور نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات. بالأقوال قال اللواء الملا إن المجلس لن يكون ممثلا لكل المصريين، ولن يكون منوطا بكتابة الدستور بشكل كامل، أما بالأفعال، فقرر المجلس العسكري إنشاء مجلس استشاري محل جدل اليوم في مصر. هذا المجلس الاستشاري مكون من 30 فردا ولا ندري هل هو أمانة سياسات جديدة على غرار أمانة سياسات جمال مبارك، أم هو يسير على نغمة الإسلام السياسي فينشئ مجلسا لتشخيص مصلحة النظام على غرار جمهورية الخميني في إيران.. العدد يقترب من عدد أفراد مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي كان يترأسه هاشمي رفسنجاني، لكن المهام، حتى الآن، غير محددة؛ إذ تقول الأخبار إنهم سيعينون نسبة 60% من لجنة كتابة الدستور مقابل 40% يختارها البرلمان، وهذا يحدث في سياق تحدث فيه بعض أعضاء المجلس العسكري للصحافيين الأجانب، معلنين أن مجلس الشعب المقبل لن تكون له صلاحيات في إدارة البلاد، خصوصا فيما يخص قضايا الأمن وشؤون القوات المسلحة. وبينما لا يكذب المراسلون الأجانب، فإن بعض الصحف المصرية قالت إن المجلس تراجع عن تصريحاته، والبعض الآخر قال إن ثمة مواجهة قد تحدث بين الإخوان والمجلس العسكري نتيجة لهذه التصريحات؛ لأن فيها تراجعا عن صفقة البرلمان مقابل الرئاسة التي كتبت عنها هنا الأسبوع الفائت، لتجعله برلمانا خالي الدسم أو معدوم الصلاحيات مقابل رئاسة قوية تابعة للعسكر. المجلس الاستشاري الذي صنعه المجلس العسكري يبدو بمثابة منطقة عازلة بين البرلمان والمجلس العسكري، سياج تأييد مدني للعسكر إذا قرر الإخوان والتيار الديني أن يسحبوا تأييدهم للمجلس العسكري، وعلى الرغم من أن هذا وارد، فإن التاريخ المصري القريب الخاص بعلاقة الإخوان بالعسكر يوحي بأن الصدام مقبل لا محالة، وهذا ما حدث تقريبا في الفترة من 1952 إلى 1956 حين تولى عبد الناصر الرئاسة من محمد نجيب. فعمر علاقة الإخوان بالعسكر عمر قصير. وهذه التجربة التاريخية تجعل هذا التحالف ليس فقط هشا وإنما مسكون بمخاوف؛ لذا نجد المجلس العسكري يتحسب من ناحية والإخوان يتحسبون من ناحية أخرى.

المجلس الاستشاري للعسكر كمؤسسة يبدو أنه محاولة لإعادة ترتيب الأوراق تحسبا لشرعية أكبر قد يكتسبها الإخوان أو السلف أو الاثنان معا، شرعية تزيد على حدود المتفق عليه بين الإخوان والعسكر، لكن المجلس في حد ذاته مؤشر تخبط وسوء إدارة، وليس كما يبدو مؤسسة داعمة للاستقرار أو مقابلة الثوار في منتصف الطريق؛ حيث كان الثوار يطالبون بنقل السلطة إلى المدنيين فمنحهم المجلس العسكري مجلسا استشاريا من المدنيين، مضافا إليه حكومة الحزب الوطني المنحل، المتمثلة في وزارة الجنزوري الجديدة، التي أبقت على ما يقرب من 12 وزيرا من عهد مبارك وأدخلت عليهم بعض لواءات الجيش كما في حالة وزير الإعلام الجديد الذي كان لواء عسكريا سابقا. بالطبع هذا الحل لن يرضي الثوار، فلا من في المجلس الاستشاري من الثوار، ولا الذين كسبوا مقاعد البرلمان في المرحلة الأولى من الثوار، ولا من هم في وزارة الجنزوري من الثوار. إذن نحن أمام مواجهة مقبلة، وربما موجة مقبلة من الثورة، على الرغم من محاولة استخدام الانتخابات البرلمانية كبديل عن التظاهر في الشارع.

حالة التخبط التي نراها في مصر توحي بأن ثورة مصر التي بدأت سلمية قد تنتهي بعنف شديد ومواجهات دامية؛ لأن الصفقة التي عقدت لم تشتمل على من دفعوا الثمن الأكبر للثورة؛ فبينما ذهب شاب، مثل طبيب الأسنان أحمد حرارة، إلى أمه بعين مفقوءة، ذهب من يوجدون في الميدان إلى أمهاتهم بمنصب الوزارة أو موقع في المجلس الاستشاري أو غنيمة أخرى من غنائم الثورة. ما يزيد الأمر تعقيدا هو أن المجلس العسكري ما زال يحاكم المدنين أمام القضاء العسكري، وبشكل ناجز، وفي الوقت نفسه لم يحاكم أحدا في قضية مقتل شهداء الثورة، لا في أيامها الأولى في عهد مبارك ولا بعد تنحي مبارك عن الحكم في ماسبيرو أو في شارع محمد محمود. الثوار لا يرون أن هناك جدية في محاكمة من قتلوا المتظاهرين، ويتساءلون: إذا كنا نحاكم مبارك على قتل الثوار فمن نحاكم على قتل الثوار بعد تنحي مبارك؟ لا توجد أي مؤشرات في مصر اليوم على أن هناك نية لمحاكمة قتلة الثوار.

إذا كان أنس الفقي، وزير الإعلام الأسبق، يحاكَم بتهمة تضليل الرأي العام في الفترة من 25 يناير (كانون الثاني) إلى 11 فبراير (شباط)، فماذا عن التضليل الذي قام به الإعلام الرسمي في عهد الوزير المقال أسامة هيكل؟ وإذا كنا نحاكم حبيب العادلي على قتل المتظاهرين، فكيف يترك وزير الداخلية المقال منصور العيسوي دونما محاكمة وقد قتل في عهده أكثر من 40 شهيدا من أبناء الثورة؟ من يحاكم من؟ حالة الشك والريبة التي تسود الأجواء المصرية بين الإخوان والعسكر من ناحية والعسكر والثوار من ناحية أخرى هي التي تؤدي إلى بناء مؤسسات ليست لازمة مثل المجلس الاستشاري، وبعض المؤسسات التي تمنح المجلس العسكري إما خروجا آمنا من السلطة، وإما حفاظا على مكتسبات الجيش. ولن يكون المجلس الاستشاري هو المجلس الأخير الذي يصنعه المجلس العسكري، بل ستكون هناك مجالس على غرار مجلس الخبراء في إيران أو أي مجالس أخرى، ومصر، كما يقولون، هي بلد المجالس؛ إذ يوجد في مصر، حتى الآن، أكثر من مائتي مجلس، من مجلس المرأة إلى المجالس القومية المتخصصة إلى مجالس حقوق الإنسان، وكلها إما مكافآت لأفراد بأعينهم وإما مكان استراحة للوزراء واللواءات المتقاعدين من الجيش والداخلية.. شيء أشبه بدار المسنين.

لكن يبقى أن القيام بإنشاء مجلس كهذا هو جزء من سياسة التخبط وليس سياسة الخروج من الأزمة.