درس انتخابات برلمان الثورة

TT

نشرت هذه الصحيفة على صفحتها الثالثة عشرة، صباح الجمعة قبل الماضية، صورة كبيرة لجنديين من الجيش المصري، يحملان صندوقين من صناديق الانتخاب، إلى حيث سوف يتم فرزهما.. وتحت الصورة جاءت هذه العبارة: الجيش المصري ينقل صناديق الاقتراع تمهيدا لفرزها في الانتخابات النيابية التي جرت مطلع الأسبوع.

في اليوم نفسه، كانت صحيفة «الأخبار» القاهرية، قد نشرت حوارا على صفحة كاملة، مع الدكتورة سعاد الشرقاوي، أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة، قالت فيه أشياء كثيرة، غير أن أهم ما استوقفني، أنها قالت إن إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية قبل وضع الدستور.. كارثة!

رحت أقارن، من جانبي، بين صورة الجنديين، وهما يحملان الصندوقين، وبين كلام الدكتورة سعاد، وحزنها على أن المجلس العسكري لم يستمع لكلام رجال الدستور وفقهائه، منذ البداية، وتأكيدهم طول الوقت، أن الدستور يجب أن يكون أولا.. ثم يأتي بعد ذلك ما يأتي.. ولو أن أحدا راجع الصحف المصرية، في الفترة التي أعقبت الاستفتاء على تعديل عدة مواد في دستور 1971 في مارس الماضي، فسوف يكتشف أن ما تقوله الدكتورة الشرقاوي، اليوم، قد قيل وقتها، كثيرا، وطويلا، وبالقطع فإن الذين قالوه لم يكن لهم مصلحة في أن يكون الدستور أولا، لأنهم جميعا فقهاء دستور، ولا طموح لهم خارج الجامعة حيث يشرحون لطلابهم، عاما بعد عام، معنى الدستور، وقواعد وضعه، وأصول صياغته.. إلى آخره!

في التوقيت ذاته.. أقصد التوقيت الذي نشرت فيه «الشرق الأوسط» الصورة إياها للجنديين، ونشرت «الأخبار» الحوار إياه، صدر تصريح مجهّل عن المجلس العسكري يقول ما معناه، إن المجلس منزعج من مؤشرات ونتائج المرحلة الأولى من الانتخابات، وهي مؤشرات ونتائج كشفت عن تقدم التيارات الدينية، عموما، وتأخر، أو تراجع التيار الليبرالي، إجمالا.

ولا أعرف ما الذي قصده المصدر المجهل، عندما سرب خبرا بأن المجلس العسكري منزعج.. لا أعرف، ولا بد أن غيري أيضا لا يعرف.. ولكن ما نعرفه، أن المجلس إذا كان منزعجا فعلا، فهو الذي جاء بالإزعاج إلى بابه، بيديه، عندما ركب رأسه، وصمم دون مبرر مفهوم، على أن تكون الانتخابات أولا، بغير أن يكون هناك منطق في هذا الترتيب.. إذ العقل يقول بأن الدستور يوضع أولا، ليضع الأسس التي عليها سوف يأتي برلمان، ليمارس اختصاصه، ثم يأتي من بعده رئيس جمهورية، يمارس اختصاصه أيضا، وفق ما يحدده الدستور، وحده، وليس وفقا لأي مصدر آخر!

طبعا.. ليس المرء في حاجة إلى ذكاء كبير، لكي يدرك، أن المجلس العسكري - فيما يبدو - قد أيقن مؤخرا، ومؤخرا جدا، أن الدستور كان يجب أن يكون أولا،.. وليس أدل على ذلك، إلا أنه أعد ثم سرب الوثيقة التي اشتهرت إعلاميا الشهر الماضي، بأنها «وثيقة السلمي» نسبة إلى الدكتور علي السلمي، نائب رئيس الوزراء في حكومة عصام شرف المقالة.. وقد كان الهدف من الوثيقة استدراك ما فاتنا، وفات المجلس العسكري، في مسألة وضع الدستور.. فالإعلان الدستوري الذي صدر عقب استفتاء مارس الماضي، يجعل وضع الدستور من اختصاص لجنة من مائة شخص يختارهم البرلمان الذي يجري انتخابه حاليا، ومن شأن لجنة من هذا النوع، أن تظل أسيرة البرلمان، بتركيبته، أيا كانت هذه التركيبة حين تكتمل داخل البرلمان في يناير المقبل، ولا يمكن، بالتالي، أن يتوازن دستور تضعه لجنة من وضع برلمان واضح أنه لن يكون متوازنا في ملامحه ومعالمه الفكرية والسياسية.

من أجل ذلك كله، طرح الدكتور السلمي، وثيقته التي كان الهدف الأساسي من ورائها وضع معايير اختيار لجنة وضع الدستور، وما إن خرجت الوثيقة إلى النور، حتى قامت الدنيا، على الحكومة والمجلس العسكري معا، ولم تقعد إلا بعد أن أقيلت الحكومة، ومعها الدكتور السلمي نفسه، وقبلهما خرج المشير طنطاوي، في خطابه الذي حدد فيه أول يوليو المقبل كموعد لتسليم السلطة من المجلس العسكري، إلى رئيس مدني يجري انتخابه آخر يونيو القادم.

ومع ذلك، فإن التضحية بالحكومة، لم تحل المشكلة، ولا خطاب المشير حل المشكلة، لا لشيء، إلا لأن الوثيقة إياها، قد سقطت فيما يبدو، بإقالة الحكومة، وخروج صاحب الوثيقة مع الحكومة من منصبه، ليبقى الدستور، والحال هكذا، أسيرا للجنة المائة، التي سوف يختارها برلمان الثورة، عند اكتماله في يناير 2012.

وقد بدأت تسريبات جديدة هذه الأيام، تقول بأن المجلس العسكري سوف يصدر مرسوما بقانون يحدد فيه معايير اختيار لجنة المائة، بما يعني أن المجلس قد انتزع جزئية المعايير من الوثيقة، وقرر أن يُصدر بها وحدها مرسوما بقانون، لعلنا نتدارك الخطأ الأصلي، عندما قررنا أن تسبق الانتخابات، الدستور!

ولا بد أن المتأمل لمنظر الجُنديين اللذين كانا يحملان الصندوقين، سوف يشعر بمعنى من المعاني، أنهما كانا يحملان مشكلة داخل الصندوقين أكثر منها أصواتا سوف يجري فرزها، ولو أننا تصورنا الجنديين رمزا للمجلس العسكري، ككل، فسوف نرى فيهما، بأعيننا، أن المجلس كان ولا يزال يحمل مشكلة على كتفيه من صُنع يديه، وأنه لا يعرف كيف يتخلص منها، وأن إبداء الانزعاج من مؤشرات المرحلة الأولى من الانتخابات، هو أقل شيء يمكن أن يفعله، وأن رهان الوثيقة بالنسبة له، ثم لنا، إذا كان قد سقط، فلا يتبقى أمامنا إلا رهان المرسوم بقانون، وهو مرسوم إذا مر بهدوء، وجاء مستنيرا متوازنا، فإنه سوف يفك أسر الدستور من لجنة المائة، ومن البرلمان الذي يتشكل حاليا، قبل اللجنة!

وإذا كان هناك درس يمكن استخلاصه، من هذه الحكاية على بعضها، فهو أن المقدمات الخاطئة، لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج صائبة.. ومع أنه درس بديهي، ومع أننا كنا نحفظه طلابا في مراحل ما قبل الجامعة، إلا أننا ننساه دائما!