مصر: هل هناك فرق بين عبد الناصر وطنطاوي؟

TT

هل للتنشئة السياسة للعسكر أو البيئة الثقافية التي ترعرعوا فيها دور في رسم ملامح النظام الجديد الذي قد يظهر في مصر مثلا بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011؟ أو بتبسيط أكثر هل هناك فارق بين ثقافة جمال عبد الناصر والمشير حسين طنطاوي يمكنها أن تجعل النظام المقبل في مصر مختلفا عن نظام يوليو 1952؟ على الرغم من بساطة السؤال فإنه مفتاح فهم أساسي لما سنراه في مصر في العقود المقبلة. السؤال بكل تأكيد لا يخص مصر وحدها، وإنما ينطبق على العسكر أينما كانوا في ما يخص مدى قدرة الثقافة السابقة على أن تخترق جدارا للشحن العسكري وعقائد الجيوش الصارمة، لتشكل لدى العسكر وعيا قد يكون منفتحا على فكرة التعددية. وفي هذا هل يختلف الشأن العقائدي لدى العسكر عن الشحن العقائدي لدى الجماعات الدينية؟ وهل لأي منهما قدرة على استيعاب التعددية كثقافة أولا ثم سياسة ثانيا؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد عقد مقارنة مثلا بين الظروف التي نشأ فيها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتلك التي نشأ فيها المشير حسين طنطاوي ومدى اقترابها أو عدمه من فكرة التهدئة السياسية أو الثقافية، وهل لنا أن نتفاءل بمستقبل مصر بعد عقد هذه المقارنة أو نتشاءم؟

بتبسيط أكثر هل هناك فارق جوهري بين ناصر وطنطاوي وتصورهما لشكل الدولة والدستور الحاكم لها يجعلنا نتفاءل بالمستقبل؟ بالطبع هناك الفرق العمري الواضح بين الرجلين، فقد قام عبد الناصر وجماعته بالثورة أو الانقلاب، حسب ميولك الآيديولوجية، وهم في مقتبل العمر، في الثلاثينات من العمر، وهو في درجة البكباشي، أما حسين طنطاوي (676 عاما)، فقد يكون هناك فارق في سرعة الحركة بين الرجلين والجرأة في اتخاذ القرارات، مدفوعا بحماس الشباب في 1952 ومقيدا بحكمة الشيوخ في 2011. وربما يكون هذا واضحا في القرارات التي اتخذها كل من الرجلين، فبينما كانت قرارات جماعة 1952 حاسمة وقاطعة لا رجعة عنها، نجد أن المجلس العسكري يتخذ قرارات ثم يتراجع عنها، مثل الأمر بالاستفتاء وتعديل الدستور، ثم غير رأيه بعد النتيجة وقام بإعلان دستوري يجب الاستفتاء عليه. تحدث فيهم اللواء الملا عن أن البرلمان بلا صلاحية، ثم صححه اللواء ممدوح شاهين بعدها وقال إن الدستور سيكتبه مجلس الشعب. قدموا وثيقة علي السلمي ثم تراجعوا عنها. وهذا التردد قد يحسب على المجلس ممن لا يلقى عندهم المجلس هوى، ولكنه أيضا مؤشر إيجابي إذا كنت من أنصار المجلس، فالتردد والمراجعة من علامات المرونة وربما الحكمة، وهو ذات الشيء الذي يصفه البعض بالتردد، فيحسب للمجلس أنه ليس عنيدا يتخذ قرارات ويتصلب عندها. ولكن عامل السن والفارق العمري بين عبد الناصر والمشير ليس هو الأمر الحاسم في مسألة التشاؤم أو التفاؤل بالنسبة لمستقبل مصر.

وحتى لا نظلم عبد الناصر وجماعته ونقول إن كل المأساة التي وصلنا إليها اليوم من نتاج يوليو (تموز) 1952، لا بد أن نذكر بأزمة 1954 التي أدت إلى الانقلاب الثاني داخل ثورة يوليو، والتي تم فيها عزل محمد نجيب وتولي عبد الناصر كل السلطات. فقبل 1954 كان هناك حوار جاد حول دستور ليبرالي للبلاد، وهناك بالفعل مسودة دستور 1954 التي تمثل تقدما كبيرا عن الإعلان الدستوري الأخير للمجلس العسكري وعن كل الدساتير التي تلته، ولكن حالة الصدام بين عبد الناصر والإخوان وأجواء الريبة التي أحاطت بالمشهد ألغت ذلك الدستور وحولت عبد الناصر إلى قائد له مطلق الصلاحيات، إلى ديكتاتور وطني. وليس كل ما فعله عبد الناصر خطأ، ولكن المحصلة النهائية هي أنه تسلم مصر كدولة ليبرالية وحولها هو ومن بعده تباعا إلى مجتمع ديكتاتوري تشربت فيها الدولة والمجتمع كل معاني الانغلاق. وكان السادات ومبارك ومن معهما امتدادا لعبد الناصر وثورة يوليو. وقامت ثورة 25 يناير على هذه التركة من الديكتاتورية والتصلب في شرايين نظام الحكم.

بينما تربى عبد الناصر في حقبة كانت مصر تنعم فيها بأحزاب حية في الفترة الملكية، أحزاب كالوفد والأحرار الدستوريين وغيرهما، عرف فيها عبد الناصر في المدرسة وفي الجامعة الممارسات الديمقراطية، نجد أن المشير طنطاوي أدرك شبابه الحقيقي في عهد عبد الناصر ولم يعرف سوى دولة الانغلاق ولم يعرف إلا الديكتاتور والفرعونية السياسية كنظام يحكم مصر. وهنا لا أتحدث عن المشير طنطاوي وحده، بل عن كل رفاقه الذين عاشوا في ظل الديكتاتورية المغلقة، وبالطبع ليست هذه مشكلة العسكر وحدهم، فهي أيضا مشكلة المجتمع برمته، أي أن المجتمع كله، والمشير وجماعته ممن يريدون رسم ملامح مجتمع ديمقراطي في مصر، لم يعيشوا ولم يخبروا إلا الديكتاتورية. الديمقراطية ليست حلما فقط، بل هي معايشة وممارسة. ومع ذلك عاشها عبد الناصر وانقلب عليها، فكيف بالمشير الذي لم يخبرها ولم يعشها؟ هل يستطيع وجماعته رسم خارطة طريق ديمقراطي لمصر قبل أن يتركوا الحكم، أم أن التنشئة السياسية ستغلب عليهم، ويقررون الانقلاب عليها فيما بعد؟ هل سيقبلون بنتائج الانتخابات التي تحولهم إلى مجرد جيش مهني خارج إطار السياسة؟ مؤشرات عبد الناصر تقول إن العقيدة العسكرية، وليس التنشئة السياسية، هي التي غلبت على شخصيته وحولته إلى ديكتاتور، على الرغم من أنه عاصر الفترة الليبرالية، فما بالك بمن لم يعاصروها أو لم يعايشوها، وليست لهم مرجعية سوى العقيدة العسكرية وديكتاتورية الفرعون الحديث في حالات ناصر ومبارك والسادات؟

إذا كان للتنشئة السياسية الدور الحاسم في حياة الرجلين، ناصر وطنطاوي، فالمؤشرات لا بد أن تقول إن نوعية النظام السياسي التي تنتظرنا، أسوأ بكثير مما رأينا خلال الستين عاما الماضية، ويبقى لدينا وقت لإدراك هذه الحقيقة وتدارك مناطق العلل ومساحات الخلل.