«الهلال الإخواني» مرة ثانية وثالثة!

TT

من حسنات هذه السنة ارتفاع منسوب الصراحة في الأحاديث السياسية.

شخصيا، أعتقد جازما بحق كل شخص بأن يؤمن بما شاء من الأفكار السياسية، بشرط أن لا يؤذي طرفا آخر أو يعتدي عليه ماديا. هذا من أبسط الحقوق.

من هذا المنطلق فإنه كما يحق لأي شخص أن يميل للفكر أو التوجه الذي يريد، فإنه من باب أولى يحق لي أيضا أن أختلف معه في أفكاره أيضا.

كتب الصديق، والصحافي السعودي المعروف، جمال خاشقجي مقالات في الفترة الأخيرة تصب في شرح موقف الإخوان المسلمين في البلدان التي تقدموا بها، خصوصا مصر وتونس، وتقديم النصائح السياسية والإعلامية لهم، من باب «العشم» والعاطفة الصادقة، هو ركز على فكرتين أساسيتين تدوران حول عدم الانجراف خلف مشاعر القلق من صعود «الإخوان»، وأنه يمكن الاستفادة منهم، وكذلك حض «الإخوان» على المزيد من البراغماتية وتقديم أمور على أمور.

نبدأ من آخر مقال للزميل العزيز الذي عنونه بـ«توفير الوظائف أولا ثم تحرير فلسطين». بجريدة «الحياة»، السبت 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. حيث وصف حال الإخوان المسلمين في مصر تجاه دول الخليج، فقال: «فما عدا تركيا لا يملكون علاقات خارجية جيدة إلا مع قطر التي سيخدمهم فيها الشيخ يوسف القرضاوي. السعودية هي وجهتهم الأولى، فهي الدولة القادرة بمخزونها النقدي الهائل وذات المصلحة في أن تقف مصر عزيزة قوية».

وحول تصريحات راشد الغنوشي الهجومية ضد السعودية ودول الخليج، التي أطلقها من أميركا، بعد نشوة الثورة وفوز حزب النهضة، يقول الزميل العزيز: «تصريح غير موفق بالمرة ولا بد من معالجته، إلا إذا كان التونسيون يراهنون على أن قربهم من أوروبا وليبيا كفيل بأن يسيل إليهم بعضا من النقد والاستثمارات، ولكنهم مخطئون في ذلك، فأوروبا مشغولة بإنقاذ دولها المفلسة، وليبيا مشغولة بنفسها وسلاح ثوارها وسيولتها المجمدة في البنوك الأوروبية».

ثم يختتم نصائحه لجماعة الإخوان تجاه دول الخليج: «عليهم أن يثبتوا التزامهم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، وعدم خلق محاور جديدة في المنطقة، والبعد عن إيران، وعدم الاستجابة لمزايدات شعبية تؤدي إلى مواجهة مع إسرائيل، فلا أحد مستعد لها، فتوفير الوظائف وتحسين الاقتصاد أولا... ثم تحرير فلسطين، والوحدة العربية.. وأخيرا الخلافة، إذا أعطانا الله عمرا».

بشكل مباشر: أختلف تماما مع تقويمات ووصف الكاتب لطبيعة الخلاف، أو قل «القلق» الخليجي من صعود الإخوان المسلمين في مصر وتونس، وليبيا أيضا.

باستثناء قطر، كما قال الكاتب صادقا، هناك حالة من التوجس السياسي الخليجي تجاه حركة الإخوان المسلمين، وهو توجس ليس ناتجا من فراغ، أو مجرد تجن على حركة الإخوان المسلمين، بل إنه مبني على «سياق» تاريخي وسياسي، أثبت فيه «الإخوان» في المحكات الكبيرة أنهم يمتلكون رؤية انقلابية أو تحريضية ضد إمارات وممالك الخليج، باعتبارها طبعا «تابعة» للمعسكر الغربي، وباعتبار أيضا أنه كان هناك تحالف وثيق بين «الإخوان» والتيار الخميني الحاكم في إيران، منذ اللحظة الأولى للثورة الخمينية.

تصريحات الغنوشي الأخيرة لم تأت كـ«نبتة شيطانية» أو «زلة لسان»، بل إنها تعبر عن الموقف الحقيقي والدائم لأم حركات الإسلام السياسي في المنطقة، ويكفي التذكير بمواقف الغنوشي ورفاقه في حرب تحرير الكويت حينما غزاها صدام حسين.

نتذكر أيضا اصطفاف مرشد «الإخوان» السابق، مهدي عاكف، ومعه كتاب وأعلام «الإخوان» وأصدقاء «الإخوان»، ضد السعودية ودول الخليج مع إيران وحزب الله والنظام السوري، الأمر ليس قبل قرن من الزمان، بل قبل سنوات قريبة جدا!

صحيح أنها كانت هناك علاقات «خاصة» بين «الإخوان» ودول الخليج، بالذات السعودية، بسبب احتضان السعودية لهم، بعد هربهم من الأنظمة القومية والبعثية، وخدموا في مجالات التعليم والإعلام، وغيرها، غير أن هذه العلاقة «الخاصة» تحديدا، هي التي تجعل السعودية تشعر بعدم الثقة من تقلبات «الإخوان»!

بخصوص النصح بتأخير موضوع فلسطين الآن، فهذه لن تكون أول مرة يؤخر فيها «الإخوان» قضية فلسطين أو يحلبونها كيفما رغبوا، وآخر أمثلة ذلك عقدهم لاعتصام للقدس، دون مناسبة، بجوار الجامع الأزهر لإفساد اعتصامات الآخرين في ميداني التحرير والعباسية، التي لا تتماشى مع توجهاتهم!

وهنا أورد لكم نصا عجيبا قرأته هذه الأيام، لأحد كبار الكتاب والعلماء من سوريا، من القرن الماضي، وهو علامة الشام محمد كرد علي، المناضل الوطني المعروف، ومؤسس ورئيس المجمع العلمي بدمشق الذي أسس سنة 1919، وهو أكبر في السن حتى من حسن البنا نفسه، مؤسس الجماعة 1928، يقول العلامة محمد كرد علي (توفي 1953)، نقلا، على سبيل التأييد، عن الصحافي المعروف سعيد التلاوي صاحب جريدة «الفيحاء» التي أسسها 1947، متحدثا عن جماعة الإخوان المسلمين، وبالتحديد استخدامهم الدعائي لقضية فلسطين: «أما الإخوان المسلمون فإنهم لم يفعلوا شيئا لأجل فلسطين غير جمع نفر من جماعتهم وسوقهم لدمشق لعرضهم على الناس في الشوارع إرضاء لشهوات النفوس».

ويضيف التلاوي متحدثا بحرارة نقدية مبكرة للجيل المؤسس منهم: «الإخوان المسلمون جماعة طغت عليهم الأنانية وفتنتهم الدنيا وغرتهم الحياة فطفقوا يعملون على بلوغ الشهرة والجاه والسلطان من أقرب الطرق؛ وهو طريق الدين الحنيف والشريعة السمحاء». (مذكرات محمد كرد علي، ج2، ص531 و532، دار «أضواء السلف»).

والواقع أن العلامة كرد علي تناول بالنقد أكثر من مرة الإخوان المسلمين في مذكراته تلك.

الخلاف بين الإخوان المسلمين في مصر وتونس، وبين دول الخليج ليس مجرد «عتاب» شخصي، فيحل ببعض الخطوات التجميلية والملاطفات، بل هو خلاف على سياسات وأفكار، تبدأ عند «الإخوان» بضرورات «الفقه المكي» ثم تنتهي إلى لحظة «الخلافة» كما قيل، وما قبل ذلك وأثناء ذلك، يكمن ضرر سيادة المناخ «الإخواني» في «إثارة» وتهييج كل كوامن الأصولية السياسية وفتح سوق المزايدات في الدين والسياسة، وكلنا نعرف أن تطرف سيد قطب خرج من عباءة البنا والمودودي، وتطرف الظواهري خرج من عباءة قطب.. وهكذا دواليك.

إذا كان على «الإخوان» أن يتقاربوا مع السعودية ودول الخليج، فليس من أجل إنقاذ أزمتهم المالية فقط! بل من أجل إصلاح وتغيير خطابهم السياسي، وأرضيته الفكرية التي يقوم عليها هذا الخطاب، وهذا ما يشق على «الإخوان» فعله. وبالتالي، ويا للأسف، يفترض أن الأزمة إن هدأت مؤقتا فستستمر مجددا، لأن الخلاف حقيقي وعميق، الخلاف في الخيال والأفكار والأهداف!

«الإخوان»، نسخة مصر بالذات، إن ملكوا أسباب القوة، فسيكونوا نسخة معدلة، ومخففة ربما، من إيران، هذه المرة بقالب سني، ولن يكونوا نسخة من تركيا، فالقياس مختلف والتاريخ والمجتمع أيضا، بين تجربة الإسلام السياسي في تركيا ومصر.

نعم من حقنا الحذر من «الهلال الإخواني» لا أن يتم نهينا عن الحذر من هذا الهلال الذي سيخلف «الهلال الشيعي»، وبالمناسبة فإن كاتب هذه السطور قد كتب بتاريخ 31 مايو (أيار) 2011 مقالة بعنوان «من الهلال الشيعي إلى الهلال الإخواني!» ولست متأكدا إن كان الزميل العزيز خاشقجي يقصد هذا الأمر حين قال في مقالة له قبل عدة أسابيع 12 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعنوان «هلال الإخوان القادم مواجهة أم تعاون؟»: «يجب ألا نقع في فخ تصنيفات جديدة، كالقول بخطر (الهلال الإخواني) على النظام العربي، تذكروا هذا المصطلح، فإنه يُصنع حاليا».

وبعد، أتفق تماما مع الزميل العزيز بوجوب التعامل بواقعية مع التغيرات الجديدة في مصر وتونس، وأن هذا في النهاية هي منتوج التصويت المصري والتونسي الداخلي، وأن هذا الأمر برمته شؤون داخلية تخص المصريين والتونسيين، والدول تسعى خلف مصالحها وليس تكييف الآخرين كما تريد، ولكن هذا كله شيء، وأن نلغي كل ما عرفناه وخبرناه عن «الإخوان»، وما نتوقعه منهم أيضا، فقط لأنهم وصلوا إلى السلطة، هو شيء آخر.

في كل حال، إن غدا لناظره قريب، وأتمنى أن يصدق حسن ظن من يتوقع من شجرة «الإخوان» أن تنتج ثمرا لا شوكا.

[email protected]