فكر.. في أوقات مضطربة

TT

قاد الأمير خالد الفيصل مؤتمر مؤسسة الفكر العربي للدورة العاشرة في دبي الأسبوع الماضي في بحر مضطرب عربيا، فلا سوريا تبدو فيها نهاية قريبة وعلى أي جانب سوف ينتهي حمام الدم، ولا اليمن وضع على السكة التي تجمع اليمنيين وتقيل عثرة الظلم العام، ولا الانتخابات المصرية وصراع العسكر مع المجتمع المدني واضحة المعالم، ولا حتى تونس التي تراوح بين استقرار وفوضى، أما ليبيا فإنها أقرب إلى حرب داخلية منها إلى استقرار، لم نصل حتى الآن إلى المدينة الفاضلة، وربما لن نصل إليها في بحر عقود وعقود من الزمن.

أن تقوم مؤسسة الفكر العربي بتنظيم لقاء موسع تحت شعار «ما بعد الربيع» كان في حد ذاته تحديا فكريا وسياسيا ضخما، إلا أن المؤتمر عقد وطرح فيه الكثير من الأفكار، لعلّي أوجزها بمسارات خمسة:

أولا: دور الشباب في التغيير، وهنا اختلفت الآراء، هل الشباب يعني مرحلة من العمر، أم هو طريقة تفكير حديثة؟ البعض تحيز للعمر، وآخرون قالوا بالتوجه الآخر، أي الخبرة، لأن من قام بعبء الربيع العربي هو كل الناس، ولم يكن حكرا على بعض الناس، حيث كان القهر عاما والازدراء السياسي شاملا. أحدهم قال بحماس إن السياسيين المصريين كانوا يأتون إلى ميدان التحرير يقولون للشباب، نحن نريد أن نتعلم منكم.. قالها بحماس، المسكين فاتت عليه ألعاب السياسيين التي شربها بكل حسن نية! كانوا يقولون ذلك من أجل الترويج السياسي لأنفسهم لا غير، ولكن لقلة الخبرة فهمها وأقرانه، بأن السياسي صادق في كل ما يقول! من جانب آخر، قدم الشباب بعض تجاربهم العملية والحياتية، إلا أن ما توقفت عنده نزعة بعضهم إلى شيء من «اعتماد الخرافة» في تقديم تجاربهم، أقول بعضهم وليس الكل، كقول أحدهم إنه حلم بأنه يتسلق جبل قمة إفرست فصحا من الحلم مصمما على ذلك! وبالفعل فعلها! لو تحدث عن تصميمه على التدريب وصعوبات ذلك وقدرة العزيمة كان أفضل درس للشاب من الاعتماد على «الحلم» لما فيه من التحيز إلى الميتافيزيقيا!

الثاني: هو تضخيم دور «ميدان التحرير» في كل ما حدث من ربيع العرب، نعم كان هناك إشارات إلى تجارب تونس وليبيا واليمن، إلا أنها كانت إشارات قليلة. لا أشك في أن مصر لها دور قاعدي، كما يقول منظرو القوى الإقليمية، ولا شك أنها مؤثرة في الفضاء العربي بشكل عام بسبب ثقلها الذي لا يمكن تجاهله. إلا أن الحقيقة الأخرى أن الريادة هذه المرة وفي ربيع العرب بالذات كانت من تونس، ولا يصح تجاوز تلك الحقيقة، حيث قال أحد المتحدثين من السياسيين الكبار بالحرف «قدمنا أهم شيء للحضارة في ميدان التحرير»، خوفي من هذا النوع من المبالغة أن يسد الطريق على أهم ما يطالب به الربيع العربي، وهو إخضاع كل الأحداث للنقد الموضوعي دون تبجيل أو تهليل. أحد الإخوة التونسيين قال إن البوعزيزي (مفجر شرارة الاحتجاج في تونس) لم يكن الأول ولا حتى العاشر الذي يقتل نفسه بسبب ضيق العيش وانسداد الفرص، كان الحادي عشر، وهنا يستوقف المراقب أمر مهم، هو أن يبحث المهتمون في ما جاور الشرارة الأولى (انتحار البوعزيزي) إلى عوامل أخرى تزامنت مع الحدث، مما جعل التونسيين يخرجون إلى الشارع بالآلاف طلبا للتغيير، إنه الاحتقان السياسي الذي كان يبحث عن شرارة إيقاد، وإهمال كامل من قيادة «تنام في العسل»، إن صح التعبير.

الثالث: أن التجارب لا يمكن نقلها بحذافيرها، مهما تقاربت الثقافات أو تجاورت البلدان، فمسار كل تجربة من ربيع العرب مختلف عن الثاني، هذا الاختلاف قد يكون كليا أو جزئيا. الخطأ الذي وقعت فيه بعض القوى السياسية أنها أرادت أن تنقل نقلا كربونيا ما حدث في بلاد أخرى إلى بلدانها (الشعب يريد)، وتبين أن الموضوع أعمق من الشعار، وهو أولا درجة القمع معطوفة على عوامل أخرى، منها الاستعداد الشعبي للخروج عن السلطة القائمة، وقدرة المنظمين على الحشد وجمع المؤيدين، وكذلك موقف قوى عالمية من كل ذلك. فالشعوب تنطلق من تجاربها، كما قال أحد المتحدثين، فلكل شيء أجله! إلا أنه لفت النظر إلى موقف آخر، وهو موقف الحكومات العربية من الاضطهاد الواقع على الناس في بلدان عربية، وهل تستطيع الجامعة العربية أو أي منظمة إقليمية التدخل لرفع الظلم الفادح؟ سؤال ترك معلقا!

الرابع: هو ما نتج عن الربيع حتى الآن وهو إفراز صناديق الانتخاب، هناك توافق نسبي من النخبة المتحدثة في «فكر 10» على أن صناديق الانتخاب وحدها ليست الهدف، إنها التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، معطوفة على العدالة الاجتماعية وسيادة القانون، وما تغير حتى الآن في ربيع العرب هو القشرة التي كانت تظلل الأنظمة السابقة، أما المحتوى فإن إفرازات شعبية وثقافة عامة ما زالت سائدة وتحتاج إلى وقت طويل لتغيير المحتوى. التوق إلى الديمقراطية الجيفرسونية شيء، وتطبيقها في مجتمع له ثقافة تجل من «الرئيس والحاكم» وتحبذ «الطاعة المطلقة» شيء آخر تماما. مشروع بناء الدولة أعمق من التجاذبات بين الأحزاب الجيدة للوصول إلى السلطة، بناء الدولة يعني الإيمان ببناء المؤسسات، واستقلال القضاء، والتداول السلمي للسلطة، والاعتراف بالتعدد والتنوع في المجتمع. ذاك يحتاج إلى ثقافة لم نعد أنفسنا بعد لها.

الخامس: هو دور وسائط الإعلام الحديثة في ترقية وعي الجمهور العربي، وهنا أيضا اختلف البعض، فمن قائل إن وسائط الاتصال الحديثة كانت المحرك لكل ما حدث، ومن قائل إنها ساعدت الحراك ولم تنشئه، حيث كانت أسبابه في مكان آخر. في هذا الموضوع لفت النظر إلى الاستخدام السلبي لمثل تلك الوسائط في الاتصال الاجتماعي، حيث يكثر في فضائنا العربي الاختباء وراء الأسماء المستعارة والإمعان في التجريح الشخصي، وهو أمر يدل على ثقافة التخفي وحب التنابز على قاعدة شخصية ليست اجتماعية ومهنية.

تلك إطلالة، ولو سريعة، على مجمل ما تم الحديث حوله في «ما بعد الربيع» في «فكر 10» في دبي. ولا أعتقد أن الموضوع قد أنجز، فالربيع إن صحت التسمية في أوله، وما حولنا كمية من الضباب يصعب حتى لخبير الأرصاد التكهن بما خلفه!

آخر الكلام:

مر خبر تقديم وزيرين من وزراء منظمة التحرير إلى المحكمة بتهمة الفساد، مرور الكرام على وسائل الإعلام العربية، رغم أهمية الخبر ومركزيته في العمل العام العربي، ترى هل نسمع أنه قدم أمثالهم في بلاد عربية أخرى قريبا!