عندما تمارس «الأغلبية النائمة» ديمقراطية الاقتراع

TT

هل أنت من الأغلبية الصامتة التي لم تنتخب السادات. ولا بشار. ولا مبارك. ولا نجاد. وكان هناك دائما من ينتخبهم زورا، بالنيابة عنك؟ أم هل أنت من أهل الكهف؟ من «الأغلبية النائمة» التي صحت فجأة. انتخبت الشيخ «السكندري» الشحات، ففاز عليه خصمه «الكافر» نجيب محفوظ؟!

سواء كنتَ أغلبية صامتة. أو نائمة، فأنت، يا سيدي، أغلبية مليونية حيَّرت ديمقراطية صندوق الاقتراع الذي سخر منه لينين. صوت لينين وتروتسكي لديمقراطية حزب الطليعة القائد، ففاز بالتزكية ستالين! مات الأول غمًّا. مات الثاني قتلا بمطرقة ستالين. وعندما مات الأخير (1953)، كان على القوميسار الفلاح خروشوف ورفاقه في «البوليت بيرو» إعدام رجل الأجهزة والشبيحة (بيريا)، قبل أن يقنصهم من «سطوح» الكرملين.

وهكذا، فالأغلبية الصامتة كتلة بشرية خامدة. محافظة. متمسكة بالتقاليد وكنيسة الأحد. كتلة مستريحة ماديا. همّها أمنها. استقرارها. كتلة بلا آيديولوجيا. لكنها عنصرية. شديدة العداء للمهاجرين. كتلة تقرأ الرواية البوليسية والرومانسية، قبل أن تنام. ثم تبقى ضيقة الأفق. لا تفهم السياسة الخارجية. مستعدة لانتخاب بوش. وخليفته ريك بيري. نيوت غينغريتش. ميت رومني، وليذهب العالم إلى الجحيم... ولتبقى إسرائيل نووية. آمنة.

هذه الكتلة لا تصوت إلا في اللحظة الأخيرة. إن صوتت كان صوتها لصالح لذائذها الرأسمالية. وهي قادرة دائما على قلب المائدة الانتخابية. بخيلة. لا تمنح أكثر من 30 إلى 35 في المائة. لا فرق. سواء كان المرشح حزب ساركوزي. بوتين. أوباما. أنجيلا. لوبن. وهي شديدة النسيان. مستعدة لأن تغفر لهم خطاياهم. ثم تعود لترتكب خطيئة التصويت لمنافسيهم.

والعرب؟ كان العرب أمة ناطقة في زمن النضال ضد الاستعمار. صاروا أمة صامتة منذ الاستقلال! في اللحظات النادرة لممارسة ديمقراطية الاقتراع بنزاهة. صوتوا بعشوائية فوضوية مذهلة. كانت الأغلبية السورية الصامتة تصوت، في قائمة واحدة، للشيوعي خالد بكداشي. وللإخواني عصام العطار.

لم تستطع الانقلابات العسكرية. ولا الأحزاب والحركات القومية واليسارية، أن تكسر صلابة الكتلة الصمّاء المحافظة. المتدينة. المستقرة في صميم الأغلبية الصامتة. ظلت تصوت للإسلام الإخواني، ولليمين السياسي. وها هي اليوم تفعل ذلك في مصر. تونس. المغرب. وغدا في ليبيا. سوريا. اليمن...

نظام بشار يعرف أن ديمقراطية الاقتراع الحر في سوريا، ستكون إخوانية/سلفية. من هنا، فهو يفوّت على نفسه فرصة عربية. تركية، لعقد مصالحة متوازنة مع الانتفاضة، تُبقي له حصة من كعكة الديمقراطية.

المشهد في سوريا أكثر دموية. المشهد في مصر أشد إثارة. فهو يتطور بسرعة يومية. «الإخوان» انتهكوا اتفاق «الجنتلمان» مع الأميركيين، بعدم اكتساح ديمقراطية الاقتراع. عندما أدار المجلس العسكري الانتخابات، بشفافية ونزاهة، مستعينا بالقضاة، أنزل الإخوان الكتلة الشعبية النائمة، للتصويت لهم. فنالوا مع التنظيمات السلفية 65 في المائة من الأصوات. والنسبة مرشحة للصعود، إذا ما جرت انتخابات المرحلتين الثانية والثالثة.

فورا، سارعت أميركا إلى تحذير الإخوان والسلفيين. طالبتهم بضمان حقوق الأقليات. حرية التعبير والاجتماع. الالتزام بتداول السلطة عبر الاقتراع. أيضا، تحرك المجلس العسكري. وحكومة كمال الجنزوري المرتبطة به. قلب العسكر المشهد السياسي. لم يلغوا الانتخابات، كما فعل عسكر الجزائر (1991) متسببين بصدام دموي مع الإسلام الجهادي.

أعلن اللواء مختار الملاّ أن مجلسي الشعب والشورى لا يمثلان روح مصر، ولا أغلبية المصريين! وشكل العسكر مجلسا استشاريا (انسحب منه الإخوان)، لوضع «ضوابط» للجنة البرلمانية (غالبيتها ستكون إخوانية سلفية) المقرر أن تضع مشروع الدستور في النصف الأول من العام المقبل.

بل أصر المجلس العسكري على وضع دستور مدني، بحيث تشارك هيئات المجتمع المدني في سَنَّهِ. بمعنى أنه غير مسموح للإخوان باهتبال اللحظة السانحة الآن لاحتكار الأغلبية النيابية، وفرض سلطة دينية، من خلال دستور غير مدني.

هل يتطور المشهد الساخن إلى صدام بين «الإخوان» والجيش؟ حزب «الحرية والعدالة» الإخواني. أرسل «تطمينات» سريعة: لا دولة دينية. لا ائتلاف مع السلفيين. «أخونة» السلطة لن تمتد إلى أخونة المجتمع. الأقباط شركاء لنا. لا فرض للحجاب. لا تضييق على السياحة بمنع المايوه والخمور. لا إلغاء لصلح الكامب مع إسرائيل. غير أن كل هذه «التطمينات» عُلقت بـ«إلا» و«لكن»، تمكينا لهم من المناورة في المستقبل. فهم لن يصطدموا بالمجلس العسكري، «إلا» إذا أصر على الهيمنة على السلطة والسياسة.

لم تكن حكومة العجوز الجنزوري (78 سنة) بأقل جرأة وصراحة من سندها العسكري. فقد أعلن المستشار السياسي للجنزوري أن الدولة ستكون مدنية. ديمقراطية. لا احتكار للسلطة. بل توافق وطني في الحكم. قال إن حكما إخوانيا/ سلفيا سوف يهدد الأمن الوطني المصري. سوف يذيب هوية مصر. إذا ما أقام دولة الخلافة (مصر. سوريا. تركيا. تونس. المغرب) الإخوانية أو السلفية.

أخيرا، دعا مستشار الحكومة (وأعتقد أنه هنا على حقا) القوى الدينية المتسيسة إلى قراءة المراجع في العلوم الاقتصادية. السياسية. لفهم كيفية إدارة الدولة والتنمية.

فالاقتصاد، في رأيه، ليس فقط الزكاة (2.5 في المائة من ضريبة الدخل). الاقتصاد أعقد بكثير من إرضاء ناخب الأغلبية النائمة. بقنينة بوتاغاز. أو (كيلو لحمة).

على أية حال، فقد أرسل اللواء الملاّ تطمينات عسكرية في مقابل التطمينات الإخوانية. قال إن المجلس العسكري سينسحب من السياسة والسلطة، فور انتخاب رئيس للجمهورية في منتصف العام المقبل. من سيكون المرشح المرجح؟ قضى الاشتراكي محمد البرادعي على فرصه الرئاسية، برفضه تشكيل حكومة «الإنقاذ».

لعل الليبرالي عمرو موسى غدا، ضمنا مرشح العسكر. فهو يتصرف في الشارع. في المقهى. في المسجد. في الكنيسة، وكأنه «غودو» القادم على متن السحابة الرئاسية. وفي ظني أن عمرو (76 سنة) قادر على التقريب وتخفيف التوتر، بين الإخوان والعسكر، تفاديا للكارثة.

فَرْزُ القوى السياسية أمر محتم، إذا حدث الصدام بين العسكر والإخوان. فالقوى الليبرالية (الوفد. الناصريون. المستقلون) والقوى اليسارية (الماركسيون وحزب التجمع) ستؤيد العسكر، في الإلحاح على حكم مدني.

لكن أين تقف قوى الانتفاضة الشبابية؟ الشباب اليوم ضد العسكر. يحاصرون العجوز الجنزوري. بدأوا ينسحبون من ميدان التحرير. غدا. يبتلعون مراهقتهم السياسية، ليصطفوا هم أيضا وراء العسكر، ضد الإخوان الذين خطفوا منهم الانتفاضة. وصندوق الاقتراع. وشعارات الديمقراطية.

مصر اليوم جديرة بالمتابعة. مصر أكثر أهمية من سوريا. التحولات المصرية السريعة سوف تحدد هوية السلطة العربية غدا: مدنية. أم دينية؟ عسكر سوريا قد يكسبون معركة. لكن يخسرون الحرب. لم يكونوا في ذكاء عسكر مصر في انحيازهم إلى الشعب. في الرهان على ديمقراطية متوازنة، لهم فيها دور المراقب. لا دور القناص والقاتل.