معركة ليبيا

TT

كانت ديانا روس، إحدى أروع صحافيات القرن العشرين، تقول إنها لا تؤمن بشيء اسمه الريبورتاج، أو الصحافة التحقيقية، أو صحافة الاستطلاع، إنما بشيء واحد يُدعى «الريبورتنغ». لا ترجمة وافية لها. ولا حتى «النقل من الموقع». أو «السرد الرفيع». أو «فن الكتابة الصحافية». لكن عندما تفكر في هذا الفن، الذي هو أرقى، وأحيانا أشق، أنواع العمل الصحافي، تخطر لك أسماء مثل همنغواي وغارسيا لوركا وأندريه مالرو وريمون كارتييه وعشرات الذين حازوا جوائز بولتزر وسواها. ولا ننسى، مثلا، أن رجالا مثل تشرشل وفرنسوا ميتيران بدأوا حياتهم في هذا الحقل.

تابعت أحداث ليبيا، في أعماقها، في «النيويوركر»، و«الغارديان»، و«لندن ريفيو أوف بوكس» و«نيويورك ريفيو أوف بوكس». اللحظات الأخيرة في حياة القذافي قرأتها، ثانية ثانية، في «باري ماتش». أين كان الصحافيون العرب؟ كانوا خائفين من الوقوع في أيدي كتائب خميس أو كتائب الساعدي. لا حماية للصحافي العربي في تغطية الأحداث العربية، فهو إما مع وإما ضد. وهو ملعون أو مبارك سلفا باسم صحيفته. حتى بعد سقوط الجماهيرية بالطريقة التي سقطت بها، لم يلق الصحافيون العرب جهة يذهبون إليها باطمئنان؛ فهم يعرفون أن الناس ضد النظام الساقط، لكنهم لا يعرفون من مع من ولا من ضد من. والوجه الوحيد الذي يوحي بالطمأنينة وروح القانون، مصطفى عبد الجليل، ضاع بين الوجوه المتزاحمة.

خسرت الصحافة العربية معركة ليبيا في «الريبورتنغ»، تلك الرسائل من أرض الجبهة، التي تدخل فيما بعد كلاسيكيات الأعمال الأدبية، وليس الصحافية. ذلك المراسل الذي يقارن بين وصول سيف الإسلام القذافي إلى طائرة الأنطونوف الروسية العتيقة، وبين وصوله، بكامل الأناقة واللياقة البحرية، على يخته إلى سان تروبيه، بنظارتيه الشهيرتين وابتسامته الساخرة.

كانت ليبيا أرضا مليئة بدراميات العصر وقطاف التراجيديا، لا تنتظر سوى صحافي يريد أن يبدأ مسيرة «الريبورتنغ» أو أن يتوجها: بنغازي تواجه بصدرها الرجل الذي كانت تخشى ذكر اسمه غير مرفق بالتبجيل، وطرابلس تنقلب في ليلة واحدة، من الساحة الخضراء إلى ساحة الشهداء، والرجل الذي اعتاد الظهور على شرفة الركام ليحكي عن نفسه، بنفسه، لنفسه، منقطع الأنفاس، لا يظهر هذه المرة، لا مضحكا في سيارة عتيقة، ولا متوعدا حاملا كتابه الأخضر، ولا زائغ العينين حائرا: هل هم جرذانه أم ملايينه. لقد خسرت الصحافة العربية معركة ليبيا عن قرب.