إسرائيل والربيع العربي

TT

في عام 1986 - على ما أذكر - صدر لي كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان «العرب ودول الجوار الجغرافي» في إطار مشروع هائل عن «استشراف مستقبل الوطن العربي». ركز الكتاب في ذلك الوقت على ثلاث دول هي: إيران، وتركيا، وإثيوبيا؛ أما إسرائيل فلم يكن مستساغا في أرجاء المشروع وضعها ضمن «دول الجوار» لأن للجيران في الثقافة العربية نوعا من الود والوفاق المطلوب لم يكن مستحبا وضع دولة تحتل الأراضي العربية ضمن إطارها. وعلى أي الأحوال فقد كانت هناك دراسة أخرى عن مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي بحثها الدكتور أسامة الغزالي حرب. ورغم ذلك فقد بقي المفهوم من الناحية الأكاديمية حاضرا، ولا يحتمل بالضرورة حبا أو عداء فهو منشق من مدرسة قديمة في العلاقات الدولية تقوم على ما يسمى الجغرافيا السياسية، ومن ثم فإن إسرائيل أردنا أو لم نرد جزء من البيئة الجغرافية، والسياسية تبعا لذلك، من حركة التغير الإقليمي الجارية حاليا في منطقتنا العربية، مثلها في ذلك مثل بقية دول الإقليم، بل ربما دول العالم أيضا.

لقد حدث «الربيع العربي» وشكل زلزالا كبيرا في قلب العالم، وما زال هذا التغير في طبقات الأرض العربية من ثورات جاءت في مواجهة حالة من «الاستقرار» و«الجمود» استمرت لعقود طويلة، يجذب اهتمام العالم، فما بال القريبين منه. فالثورات بطبيعتها تعيد رسم الخرائط والتحالفات وعلاقات القوى المختلفة داخل الإقليم، وإذا كانت التوجهات الحالية نحو مزيد من انتشار الإسلام السياسي الثوري أو الديمقراطي سوف تستمر كما بدا في تجارب تونس والمغرب وليبيا ومصر، وكما ينتظر من سوريا واليمن بعدهما، فإن ما سوف ينجم عن ذلك لن يقل إثارة عما حدث خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي واستمر لعقود تالية من سيادة للاتجاه القومي العربي كمركز للتفاعلات السياسية والاستراتيجية في المنطقة.

في ذلك الوقت اهتمت إسرائيل كثيرا باتجاهات الرياح العربية، وربما كانت ضربتها في يونيو (حزيران) 1967 موجهة ليس فقط لدول بعينها بل لتيار كامل. الآن فإن الليلة تشبه البارحة، فهناك انقلاب شامل في العالم العربي لا يعلم أحد إلى أين يتجه، ومتى ينتهي، ولكن المعلوم هو أن المنطقة لم تعد كما كانت، كما أنها لن تعود أبدا إلى ما كانت عليه. وللوهلة الأولى عند قراءة الصحف الإسرائيلية والدراسات الأولية حول ما يجري في المنطقة، بل وحتى أقوال الإسرائيليين في المؤتمرات الدولية، فإن رد الفعل الإسرائيلي للربيع العربي يعبر عن سرور واضح. فالثورات عامة بما فيها من عملية تدمير منظمة لنظام قديم، وأحيانا لا يكون النظام وحده هو الضحية بل الدولة كلها، تؤدي إلى ضعف استراتيجي كبير يستمر لسنوات ما لم تكن عقودا. وإذا كان الاحتمال قائما أن قدرا من الديمقراطية سوف يدخل إلى المجتمعات العربية فإن السائد بين الديمقراطيات أنها لا تحارب بعضها، بل إنها كثيرا ما تبحث عن سبل للتعاون مع جيرانها. وببساطة فإن العالم العربي الجديد لن يكون لديه وقت طويل للتفكير في القضية الفلسطينية؛ وأيا كانت مشارب النظام الجديد في سوريا على سبيل المثال فإنه سوف يكون مشغولا بإزالة آثار البعث لسنوات طويلة، ومن ثم فإنه سوف يكون أقل عداء في حديثه لإسرائيل، وفي فعله بمساعدة حزب الله، وجذب القوة الإيرانية إلى الحدود الإسرائيلية.

ولكن وجه السعادة الإسرائيلية بالربيع العربي لا بد أن يفرز فورا وجها آخر للتعاسة يبدأ من أن العالم العربي الذي تعرفه إسرائيل لم يعد معلوما، سواء كانت الدولة العربية في حالة حرب، أو حالة سلام مع الدولة العبرية. فقد خبرت إسرائيل سوريا قلبا وقالبا، وعرفت مصر من خلال حفنة قليلة من صناع القرار كان يمكن التنبؤ بردود أفعالهم غضبا أو ابتسامة، بل وكان معروفا حدود حركة عرب المغرب، والمدى الذي يصل إليه عرب المشرق. كل ذلك لم يعد متاحا الآن، وعلى إسرائيل أن تبدأ من أول السطر، خاصة أن الثورات لن تلد تيارات ليبرالية قوية كتلك التي نجمت عن ثورات أوروبا الشرقية ووقعت فورا في الهوى الإسرائيلي. الثورات العربية على العكس ولدت أشكالا مختلفة من الإسلام السياسي الذي لديه أصولية عدائية تجاه إسرائيل. وثبت لدى إسرائيل من خلال علاقاتها بتركيا أنه حتى في حالات اعتدال الحركات الإسلامية وعلاقتها الوثيقة بالغرب فإن هناك حدودا لا يمكن اختراقها، وهناك قضية فلسطينية لا يمكن تجاهلها. الربيع العربي إذن، حتى ولو جعل العرب مشغولين لفترة بأمور داخلية، فإنه على الأرجح بعد مرحلة انتقالية سوف يولّد قيادات معادية أو على الأقل غير مرحبة بالسلام مع إسرائيل.

وكما هي العادة عندما يكون هناك تيار مرحب متطرف، وآخر عدائي فيه مغالاة، فإن تيارا ثالثا يتولد في اتجاه عدم الاهتمام، فما يهم هو قوة إسرائيل ذاتها وفلسفتها في التعامل مع العالم الخارجي ومن بينه العالم العربي وبقية الجيران في الشرق الأوسط. وببساطة فإن الأجيال السياسية الإسرائيلية السابقة كانت حريصة على الحصول على القبول والاعتراف والشرعية من جيرانها، وهو ما لم يعد واردا بالنسبة للأجيال الحاكمة الآن في إسرائيل التي ثبت لديها أن العداء الإقليمي لها ممتد، وينتقل من جيل إلى جيل، ومن ثورة إلى ثورة أخرى، وسواء كانت قومية عربية أو أصولية إسلامية فإن الأمر لا بد أن يحتوي على عداء لإسرائيل. نتيجة ذلك هي أن الربيع العربي لا بد أن يترَك لأهله، وسواء ازدهرت فيه الزهور أو تحول إلى الكثير من العواصف الرملية فإن النتيجة واحدة. وكل ما تستطيع إسرائيل عمله هو أن تبني حائطا هائلا بينها وبين الإقليم تحرسه بقبة صاروخية كبيرة تفتح بواباتها فقط لكل من ترى إسرائيل أنهم يشاركونها همومها ومصالحها وهم على وجه الترتيب الولايات المتحدة وشمال أميركا معها، وأوروبا شرقا وغربا، ومعهما العملاقان الصين والهند حيث يجري زواج التكنولوجيا والمال والتجارة وحولهم يتم نسج مصالح استراتيجية طويلة المدى.

ما بقي بعد ذلك من الشرق الأوسط القديم من «عملية سلام» أو التعامل مع حماس أو حزب الله أو حتى إدارة اتفاقيات السلام مع مصر والأردن فإنها سوف تظل تحت السيطرة بحيث لا تفسد عملية إبعاد إسرائيل عن الإقليم وما فيه التي تجري على قدم وساق. كل ذلك لن يغني عن المراقبة والمتابعة حتى لا تخرج دولة أو جماعة من الحدود المقبولة للضجيج أو حتى إبراء الذمة إلى المواجهة العسكرية أو امتلاك السلاح النووي، ساعتها فإن الرد الإسرائيلي سوف يكون، كما تعتقد القيادة الإسرائيلية، حاسما وقاطعا. ولكن السؤال الأهم من كل التوجهات الإسرائيلية هو: هل تفلت إسرائيل نفسها من الربيع العربي سواء بين العرب أو اليهود من سكانها؟