السؤال المحيّر في السودان

TT

سُئل راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، في حوار قبل أشهر، عن تجربة «الإسلاميين» في حكم السودان، فقال: «للأسف فشل التجربة السودانية أمر واقع، وهل يتوقع ممن فشل في إدارة الحوار في صلب جماعته أن ينجح في التوافق مع جماعات طالما أعلن عليها الجهاد، ولم يدخر وسعا في التعبئة ضدها وتضليلها وتخوينها، والحلف جهارا نهارا أمام الملأ أنه لن يعيد تلك الأحزاب الطائفية؟ هل يتوقع ممن أسس مشروعه على استبعاد الآخرين والانفراد بالسلطة ونظر لذلك ورتب عليه أمره أن يتراجع عن ذلك ويتحول إلى ديمقراطي يحترم حقوق الآخر، ويفي بما يعاهد عليه؟».

هذا جزء يسير من شهادة قيادي عاشر إسلاميي السودان، وعاش بينهم فترة، وتعاطف معهم قبل أن يكتشف فيهم ويرى منهم ما جعله يبتعد ويصبح ناقدا لهم ولتجربتهم، بل ويرى فيهم رهانا خاسرا ونموذجا قائما على القمع والإقصاء والتسلط. فهل تعلم الآخرون بينما أهل الدار في نومهم يحلمون، ويصدقون أن نظام البشير سيفتح لهم أبواب السلطة التي أقصاهم منها، وسيسلمهم أدوات الحكم لكي يتمكنوا من تفكيك نظامه من الداخل؟ يا ليت هؤلاء يتعلمون أو لعلهم يسمعون ما سمعه الغنوشي من إخوانه السابقين في الخرطوم عن ضرورة تفكيك الأحزاب «الطائفية المتخلفة»، و«إخضاع الشعب لمبضع الجراح الحداثي الإسلامي يفككه، سبيلا لإعادة تركيب هويته بحسب الأنموذج الذي نريد»! وإذا كان هناك من يحسب أن هذا الكلام من الماضي، وأن النظام تغير، فما عليه إلا أن يستمع لما قاله نافع علي نافع، مساعد البشير نائب رئيس المؤتمر الوطني، قبل أيام، عن أن «أهل السودان لا يريدون رموز أحزاب المعارضة مثالا يقتدى للهوى الذاتي والضلال»، و«إن أي تدابير يراد بها تغيير الحكومة مكشوفة لدينا».

الثابت أن الجبهة الإسلامية، منذ أن سطت على الحكم قبل اثنين وعشرين عاما بانقلاب عسكري خادع أطاحت به بالنظام الديمقراطي، عملت لهدف واحد لم يتغير، وهو الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن. ولتحقيق هدفها اعتمدت استراتيجية من شقين: استخدام القبضة الأمنية للقمع والترهيب ومنع أي تحرك لإسقاط النظام، وتفكيك المعارضة وتقسيمها ببث الخلافات فيها وزرع الشكوك بين أطرافها.

لا أحسب أن السودانيين نسوا سنوات الإنقاذ الأولى عندما اعتمد النظام كليا، تقريبا، على القبضة الأمنية وأساليب القمع وبيوت الأشباح، فأعدم وعذب وسجن وكمم الأفواه، ورفع السلاح في وجه الخصوم كلهم. كانت تلك سنوات الرعب التي أراد بها النظام ترهيب الناس، وكسر شوكة أي معارضة مبكرة، حتى يبسط سيطرته التامة على الأوضاع. اللافت أن تلك الفترة شهدت سياسات عدوانية من النظام في الخارج أيضا؛ إذ أيد غزو صدام للكويت، وتورط في محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا، وفتح حدود السودان للمتطرفين والإرهابيين، وحلم بأن يستطيع تصدير الثورة أو على الأقل التمدد خارجيا من خلال تشكيل تحالف غريب بين الإسلاميين والقوميين.

بعد سنوات «المراهقة الثورية»، انكفأ النظام على الداخل، مركزا على مشروعه للهيمنة على مراكز النفوذ السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والتجاري، وتحويل الدولة واقتصادها ومؤسساتها إلى ذراع للحزب الحاكم الذي حل محل المجلس العسكري، وحكومة الظل الإسلامية التي كانت تختبئ وراءه. وتزامن ذلك مع المرحلة التالية من خطة «الإنقاذ»، وهي العمل على تفكيك المعارضة، والسعي لبث الانقسامات فيها باستقطاب بعض أطرافها عن طريق إغراء السلطة والمال. المذهل أن النظام نجح في مخططه، واستطاع التحايل على معارضيه المرة بعد الأخرى مستخدما الأسلوب ذاته، وفي كل مرة كان يجد من يصدق وعوده التي لم تؤدِّ حتى الآن إلى أي تغيير حقيقي في بنية الحكم، أو تخفف من قبضة الحزب الحاكم على مفاصله الأساسية. كثيرون ممن شاركوا اكتووا بنار تلك المشاركة واكتشفوا أن النظام يمكن أن يمنحهم المنصب البروتوكولي، ويقدم لهم شيئا من المال الفاسد، لكنه لا يعطيهم أبدا مفاتيح السلطة الحقيقية.

ما الجديد إذن في الجزرة التي رفعها النظام اليوم أمام المعارضين وإقناعه قسما منهم بالمشاركة؟

الجديد أنه في المرات السابقة نجح النظام في استقطاب بعض عناصر أحزاب المعارضة، مما أدى إلى انشقاقات داخلها، وإلى تفكك في تجمع المعارضة، أما هذه المرة فقد نجح لأول مرة في إقناع حزب رئيسي بالمشاركة، وهو الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، وإن فشلت مساعيه في إتمام صفقة المشاركة مع حزب الأمة فسعى إلى تجنيد ابن زعيمه لكي يستخدمه للتشويش. وحتى يعلن للملأ أنه لم يتغلغل فقط داخل الحزبين اللذين ظل يحاربهما منذ بيانه الأول باعتبارهما رمزي «الطائفية والتخلف»، بل نفذ إلى داخل بيتي قيادتيهما؛ فقد قام بتعيين عبد الرحمن، ابن الصادق المهدي، وجعفر، ابن محمد عثمان الميرغني، كمساعدين لرئيس نظام الإنقاذ. هذه هي الرسالة الواضحة التي أراد النظام أن يوجهها للناس في مظهر احتفالي لا يخلو من دلالات التشفي عندما يقف نجلا زعيمي أكبر حزبين في تاريخ البلاد ليؤديا قسم الولاء أمام رئيس الانقلاب الذي أطاح بهما.

النظام لا يريد تقاسم الصلاحيات الحقيقية، أو التخلي عن السلطة لخصومه، لكنه يريد جر الآخرين إلى تحمل وزر أخطائه التي أدت إلى تقسيم الوطن وفصل الجنوب، وتبعات سياسته التي جرت وستجر معها ضغوطا اقتصادية هائلة، وحروبا تمتد بعرض البلد. وفوق ذلك يريد منع تسرب الربيع العربي إلى السودان، ببث الخلافات والشكوك بين المعارضين، وتقديم وعود اعتاد على نقضها، في لعبة أجادها وأعاد تمثيلها عدة مرات. هذه اللعبة لم تفت على فطنة غالبية السودانيين، فهل يعقل أن تغيب عن فطنة رجال عركتهم السياسة وجربوا غدر الجبهة الإسلامية؟ هذا هو السؤال المحير!

[email protected]