أين الأزهر؟

TT

ما قبل الثورة وحديث النخب السياسة في مصر التي كانت تعاني احتقان الحالة السياسية في البلد وأزمة التوريث وكل علائق وعوائق نظام مبارك السابقة عن الأزهر ودوره في صياغة الوعي الديني للمجتمع المصري باعتباره ضمانة الاعتدال في بلد يزدهر الحس الديني بين كل مكوناته حتى تلك القوى والأحزاب المصنفة تقليديا كأحزاب لا دينية هي في سلوكها الشخصي وممارستها الاجتماعية لا تخلو من شكل من التدين المصري الاجتماعي.

الأزهر في الوجدان المصري أكبر بكثير من مجرد جامع وجامعة ومراكز أبحاث دينية ومعرفية، وهو أيضا، على مستوى التأثير السياسي والاجتماعي، أكثر عمقا من مجرد مؤسسة دينية، بسبب أدواره التي اضطلع بها تاريخيا وبسبب تحوله إلى مرجعية معنوية وأخلاقية حاكمة يمكن أن تلجأ لها الأقليات السياسية والدينية والاجتماعية في حال تعرضت إلى اضطهاد باسم الدين، كما أنه أسهم ويسهم كثيرا في إبقاء حالة السلم الأهلي في مجتمع متعدد ومتنوع وفي بلد يفد إليه الملايين سنويا من كل أنحاء العالم حاملين ثقافاتهم المختلفة.

أهمية الأزهر، وبالطبيعة أنا لا أتحدث عن الدور أو تراجع التأثير، كانت جلية وواضحة في مرحلة ما قبل الثورة، فإنها أكثر أهمية الآن منذ قبل، خاصة بعد حالة الارتباك في المفاهيم الدينية وإدارة الدولة وصعود لاعبين جدد قادمين، كالإخوان والسلفيين، وهم يمتلكون تصورات سياسية واجتماعية مختلفة في كثير من تفاصيلها واجتهاداتها عن الخطوط العريضة لما يمكن تسميته «هوية الأزهر» التي كرسها عبر قرون وتحولت إلى ما يشبه «الإرث» الذي تتم العودة إليه لضبط بوصلة الاعتدال.

مفهوم الدولة الآن في مصر على المحك بعد نتائج الانتخابات وفي ظل تحالف غير ظاهر بين الجيش والإخوان وفي ظل تنامي صعود الحركات السلفية التي تطور خطابها بشكل مطرد ويتناسب مع حجم نفوذها الاجتماعي بحيث تصل اجتهاداتها السياسية والاقتصادية إلى حدود التجديف، وتظل أفكارها الاجتماعية وتصوراتها حول مكونات آيديولوجيتها التي رسخت حضورها اللافت كالموقف من الفن والمرأة والآخر المختلف والمباين مستعصية على التغيير.

من هنا فإن دور الأزهر يبدو مهما في رسم الخطوط الحمراء الدقيقة بين مفهوم الدولة وبين الرؤية الاجتماعية، بين المبادئ والتصورات الدينية التي تؤطر رؤية الدولة العامة وبين قناعات القوى الصاعدة التي لا يمكن نقلها للمجال العام كتصور سلطوي، وهو ما يجب تحويله إلى مخرجات قانونية يتم طرحها على أجندة البرلمان الجديد.

نجاح تجربة الإسلاميين التي تتطور بشكل إيجابي لا يزال غير مطمئن لقطاعات واسعة من المراقبين الذين ما زالوا قلقين جدا على الأداء السياسي، ليس بسبب قناعات وتصورات الإسلاميين الاجتماعية وإنما بسبب ضبابية العلاقة بين الدين والدولة في التحول السياسي الذي تعيشه مصر، لا سيما أن التجربة المصرية ستلقي بظلالها على كثير من البلدان الإسلامية التي يصعد فيها نجم الإخوان ويدينون بالولاء والامتداد المعنوي لتجربة الجماعة «الأم» كما يطلق على الإخوان المسلمين في مصر.

المكسب الحقيقي للأزهر في مرحلة الثورة وما بعدها أنه لم يجر إلى حلبة الصراعات اليومية والتفاصيل الصغيرة، كما أنه ما زال يحظى باحترام وتقدير من معظم القوى السياسية والدينية في المجتمع المصري، ربما هناك استثناءات تطال بعض الجماعات المتشددة، لكن غالب هذه المناوشات لأسباب شخصية بسبب خلاف بين بعض شيوخها المعتبرين ومفتي الأزهر حول قضايا عقائدية وفقهية، في المجمل العام فإن قوة الأزهر في استقلاله وقدرته على البقاء كمرجعية دينية وصوت قوي يحظى بمصداقية حتى لو لم يتدخل في تفاصيل الشأن الديني المصري.

مشكلة القوى والأحزاب الليبرالية واليسارية مع الأزهر ليست سياسية بقدر أنها محصورة في الشأن الثقافي، وتحديدا في دور الأزهر في الرقابة على المنتجات الكثيرة التي تصدر بشكل شبه يومي في المكتبات المصرية والتي كثيرا ما يتعثر نشرها أو تحدث ضجة صحافية بسبب محتواها، عدا ذلك فإن تلك الجماعات السياسية المناوئة للإسلام السياسي ترى في الأزهر ملاذها في مواجهة خصومها الذين لا يجرؤون على إسقاط مرجعية الأزهر وإن كانوا قادرين على المناورة والنقد والتشكيك في استقلاليته.

يسود الآن جدل عريض في استعادة دور الأزهر ويطرح الكثير من المفكرين مشروعا لاستقلاليته المادية والسياسية، وذلك عبر فصله عن مجلس الوزراء والانتخاب الكامل لشيخ الأزهر، لكن الأزهر في نهاية المطاف ليس الفاتيكان؛ فإجراءات ثورية كهذه قد تؤدي بالأزهر إلى دور يشبه قوة دينية متعالية كما في إيران لا تتمتع بحب فئات واسعة من الشعب.

السؤال الحقيقي الآن فيما يخص دور الأزهر ليس في طريقة إدارته أو من يحكمه، لكن في قدرته على السيطرة على كم الفوضى الهائل والخلط الكبير بين تجاذبات الدين والسياسة في مصر؛ حيث تختلط الاجتهادات المتشددة بالمعتدلة وما يخص المجتمع بما يتم فرضه ليكون برنامجا سياسيا.. هذه الفوضى التي لن يوقفها الأزهر بالضرورة لكنه سيكون عاملا قويا وحاسما في تهذيبها.

[email protected]