«ربيع» بوتين

TT

لم يكن رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين بحاجة إلى استعارة أساليب العالم الثالث في إدارة انتخابات بلاده البرلمانية ليثبت أن الديمقراطية – بمضامينها الفعلية – عبء سياسي ثقيل لا يتحمله ديكتاتوريو العالم، المعلنون والمتسترون معا. وبدوره لم يكن «الربيع العربي»، أيضا، بحاجة إلى أمثولة «أوروبية» في كيف تؤكل كتف الديمقراطية وهي بعد يراع... فلا غرابة في أن يكون الكرملين قد تحول من نصير البروليتاريا، في ظل الحكم السوفياتي، إلى نصير «العسكريتاريا» في ظل الحكم «البوتيني».. وبذهنية سلطوية في كلا العهدين.

على الرغم من أن حرارة المظاهرات المناوئة لبوتين في ساحة ترايمفانتايا في موسكو لم تصل بعدُ إلى درجة حرارة مظاهرات ساحة التحرير في القاهرة، فإن نتائج الانتخابات الروسية لا تبشر بخير لمن تبقى من أنظمة عسكرية عربية بعد أن تمخضت عن تحديات فاجأت بوتين نفسه.

بصرف النظر عمَّا شابها من تجاوزات ومن تزوير مادي في بعض الحالات، أظهرت الانتخابات الروسية استمرار مسيرة تراجع شعبية بوتين، هذه المسيرة التي بدأت، عمليا، في سبتمبر (أيلول) الماضي في أعقاب إعلانه عن رغبته في «تبادل» المناصب مع ربيبه، ميدفيديف، الذي نصبه رئيسا لولاية واحدة بعد انقضاء فترة ولايتيه الأوليين المتتاليتين عام 2008.

هذه الظاهرة قد تكون أبلغ ما واجهه بوتين منذ أن أحكم قبضته الحديدية على روسيا «الديمقراطية»، وذلك لسببين لا تخفى أهميتهما على متابعي الوضع الروسي الداخلي، أولهما: نسبة الشريحة العمرية الشابة في صفوف معارضيه، وهي الشريحة المثقفة المنعتقة من ذهنية القيادة السلطوية السابقة للدولة والمتشوقة إلى المزيد من الانفتاح على الحريات والحقوق الإنسانية. وثانيهما: ازدياد أعداد معارضيه في مناطق التجمعات الحضرية الكبرى، خصوصا مدينتي موسكو وسان بطرسبورغ اللتين كانتا بؤرتي الثورة البلشفية عام 1917 والانتفاضة على النظام السوفياتي عامي 1989 و1990.

في هذا النطاق، يصعب تجاهل مغزى التراجع الحاد في شعبية حزب بوتين في الجمهوريات الروسية ذات الغالبية الإسلامية مثل داغستان والشيشان وبشكورستان وتتارستان.. وهذه الظاهرة تطرح تساؤلات جدية حول مستقبل كيان «الاتحاد الروسي» في حال تنامي ظاهرة غياب الحزب المؤهل لأن يمثل «كل» الجمهوريات والمقاطعات الروسية بصرف النظر عن واقعها الديني أو الإثني.

إلا أن النكسة الكبرى التي واجهها بوتين في انتخاباته الأخيرة، على الرغم من لجوئه إلى استعارة مفردات الحرب الباردة لتأكيد موقع روسيا الدولي، تبقى إخفاقه في تأمين أكثرية ثلثي مقاعد الدوما (البرلمان) لحزبه، مما يطيح بآماله في تعديل الدستور الروسي وإلغاء المادة التي تحظر ترشحه للرئاسة لأكثر من مرتين متتاليتين.

لكن متاعب بوتين لا تقتصر على الوضع السياسي في بلاده، بل تتجاوزها إلى الوضع الاقتصادي، الذي أصبح، على صعيدي احتكاراته وخضوعه للأوتوقراطية السياسية، أشبه بوضع الاقتصاد السوفياتي قبل انهيار النظام الشيوعي في موسكو، مضافا إليه ميزة خاصة بنظامه هي تفشي الفساد في بناه الإدارية.

قد ينجح بوتين، مرة ثالثة، في العودة إلى الكرملين في انتخابات مارس (آذار) المقبل (واستطلاعات الرأي ما زالت ترجح فوزه). وقد تنجح «لعبة الكراسي الموسيقية» التي يمارسها مع ميدفيديف في إعادة التركيبة الثنائية الحالية إلى السلطة، لكن من الواضح أن الانتخابات البرلمانية قضت على آمال بوتين في التحول إلى «قيصر» جديد في موسكو وخلفت نظاما سياسيا متصدعا يحتاج إلى تثبيت أقدامه في الداخل قبل فرض كلمته في الخارج، خصوصا، إن لم يكن تحديدا، في الشرق الأوسط.