إيران والعرب والمديات الاستراتيجية لصراعات الدين والمذهب

TT

أسرفت إيران منذ قيام الثورة الإسلامية فيها عام 1979 في استخدام الدين في السياسة الخارجية للنظام الثوري الجديد. وما كان ذلك من جانب الثوريين الإسلاميين مجرد انعكاس للسياسات الداخلية للنظام، بل كان ولا يزال وعيا بقدرة الدين والمذهب على حشد الأنصار وإرعاب الخصوم. والدليل على هذا الاقتناع العميق أن استراتيجية استخدام الدين في هذا النظام الثيوقراطي، ما اقتصرت مثلا على فترة الحرب العراقية - الإيرانية التي دامت ثماني سنوات. فقد كان ضروريا أمام الهجوم الصدامي على الجمهورية الوليدة، حشد كل الطاقات، وأهمها الطاقات الدينية الجياشة، والكامنة في المذهب الشيعي التي تستبطن المظلومية وتستظهر الاستشهاد. لكن نهاية الحرب، لم تضع حدا لعمليات التجييش الديني في مواجهة الغرب، ولا لعمليات الحشد والعزل المذهبي والسياسي في الأوساط الشيعية وأوساط الإسلام السياسي المعارض على مدى العالم الإسلامي. بل إن هذه العمليات والتنظيمات تصاعدت وتيرتها في حقبة تولي السيد خامنئي لمنصب الولي الفقيه والمرشد الأعلى. فالخميني الذي قاد انقلابا عميقا وممتدا في روح المذهب الشيعي الاثني عشري واستراتيجياته، ظل في جانب من وعيه تقليديا سواء في فهمه للترتيبات الداخلية بالمذهب، أو للعلاقات الإسلامية - الإسلامية. أما خامنئي وجيله من رجال الدين ومن بين تلامذة الخميني وغيرهم، فقد تأثروا في تسيسهم في الستينات بـ«الإخوان المسلمين» وبسيد قطب، شأنهم في ذلك شأن حزب الدعوة الذي أتى منه الجعفري والمالكي اللذان ترأسا حكومتين بالعراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، ولا يزال المالكي رئيسا حتى اليوم. فالوعي الخامنئي حزبي وتأصيلي ويقول بالحاكمية والطليعية الثورية في الإخراج من الغفلة والجاهلية والظلام الآتي من الغرب. وقد استطلت هذه التوجهات - التي كانت ثائرة في الأصل على تقليديات المذهب والمؤسسة - بولاية الفقيه الخمينية، والتي أخرجت المذهب من التقية، وتجنب العمل لإقامة الدولة أو التعاون معها قبل الظهور، إلى تولي إدارة الشأن العام، وإقامة حكومة دينية هي مقتضى نظرة سائر التيارات الإسلامية الحديثة إلى العلاقة بين الدين والدولة. وعلى هذا الأساس، فإذا كان الخميني يعتبر نفسه ممثلا للإسلام كله في المعمورة، ويعمل من هذا المنطلق؛ فإن خامنئي تحدث مرارا عن «الكتلة الصلبة» ضمن العالم الإسلامي، وهي الأقليات الشيعية التي بدأ العمل عليها ومعها، وإنشاء التنظيمات في قلبها منذ قيام الثورة، ومن بينها تنظيمات جرى إنشاؤها بالفعل مثل حزب الله بلبنان، وعشرات التنظيمات ما بين باكستان وآسيا الوسطى والعراق، وتنظيمات جرى تحويلها فكرا وقيادة للتلاؤم مع الآيديولوجيا الثورية الجديدة.

هناك تطوران إذن حدثا مع قيام الثورة الإيرانية، بل كانا بين دوافع مشاركة رجال الدين فيها؛ الأول: إدخال الدين في بطن الدولة، أي التخلي عن الموقف التاريخي التقليدي للشيعة الاثني عشرية من الأنظمة السياسية باتجاه إقامة دولة التمهيد، والثاني: الاعتماد على موارد الدولة والمذهب في نشر نفوذ المؤسسة الدينية الإيرانية في الأوساط الشيعية العربية والإسلامية والعالمية، واستتباع تلك الأوساط من خلال تنظيمات إيرانية بقلبها تدين للمرشد الأعلى بالولاء، وتتلقى من المرشدية الدعم والتوجيهات. وفي فترة لاحقة - بعد أواسط التسعينات، ومع تبدل المعطيات بالمنطقة بعد ضرب العراق 1990 - 1991؛ فإن الجمهورية الإسلامية عبر أجهزتها الدينية والأقسام المختصة بالحرس الثوري، أقامت علاقات بحركات الإسلام السياسي السني، المعارضة في بلدانها، والمعادية للولايات المتحدة والسياسات الغربية، وإن لم تصل في عدائها إلى حدود شن الحرب على الغرب والعالم مثل «القاعدة». أما التطور الثالث الذي حدث بعد عام 2000 فهو قرار الجمهورية الإسلامية المشاركة في الصراع على الشرق الأوسط الكبير، والدخول على الترتيبات التي أقامها الأميركيون أو تلاءموا معها وتلاءمت معهم بالمنطقة. ولذلك فقد استنفروا كل تنظيماتهم على مدى العالمين العربي والإسلامي، ثم استنفروا ووجهوا «حلفاءهم» من الإسلاميين الثوريين السنة، ومن «القاعدة» إلى «الإخوان المسلمين» إلى حماس إلى سائر الأطياف التي تعتنق طروحة تطبيق الشريعة والدولة الإسلامية، وتريد الوصول للسلطة من طريق المعارضة من ضمن آليات النظام أو من طريق الكفاح المسلح أو الجهاد. وهذا الهدف ساعدت فيه إيران الإسلامية أتباعها وحلفاءها مثلما حصل مع حزب الله وحماس وحزب الدعوة بالعراق، وتنظيمات أخرى في سائر أنحاء العالم الإسلامي.

بيد أن مرحلة جديدة بدأت في مطلع القرن الواحد والعشرين، في سياق متغيرات السياسات الاستراتيجية الأميركية، واتجاهها إلى الهجوم على كل الجبهات؛ وتارة باسم مكافحة الإرهاب الإسلامي السني وطورا باسم إخضاع الأنظمة العاصية بالشرق الأوسط. فسارعت الجمهورية الإسلامية احتياطا وإفادة إلى استنفار كل الخلايا المعدة والنائمة، وتارة باسم المذهب، وطورا (وعندما تعلق الأمر بالحركات الإحيائية السنية) باسم مكافحة الأميركيين، والحكام العرب والمسلمين المنسقين معهم. وبذلك فقد انتشر الانقسام في سائر المجتمعات العربية والإسلامية التي فيها حضور شيعي وتنظيمات بداخله تأتمر بأمر ولاية الفقيه. ذلك أنه فضلا عن الطابع الثوري لتلك التنظيمات؛ فقد كانت إيران قد ربت بداخلها أو أيقظت ثقافة للخصوصية والانفصال، وبحسب وضع كل جماعة من تلك الجماعات. ففي العراق والبحرين والسعودية واليمن وأفغانستان، من أجل الانتقام للمظلومية الدينية والتاريخية، وفي لبنان والكويت سعيا للمزيد من الاستقلال والاستغناء عن المحيط أو سعيا للغلبة وإعادة توجيه الدفة والحركة. وهذه التكتيكات التي كانت لها نتائج مباشرة على الأرض من الناحية السياسية (مثل لبنان وفلسطين واليمن والعراق وسوريا وأفغانستان)، أيقظت حساسيات وذكرت بانقسامات قديمة، بحيث ظهر وانتشر التوجس والنزاع الشيعي - السني، والذي ما نجح من قبل حتى خلال الحرب العراقية - الإيرانية الطويلة. فقد شعر إحيائيون سنيون متشددون (مثل السلفيين الذي كان فرعهم الجهادي يواجه الأميركيين في كل مكان)، أن التحركات الإيرانية لفرفطة المجتمعات هي إكمال للحصار الأميركي على أهل السنة؛ وبخاصة أن التنظيمات الإيرانية بالعراق وأفغانستان كانت تعمل مع الأميركيين لمواجهة «المقاومة السنية» للغزو، والمتمثلة بطالبان بأفغانستان وباكستان، وبـ«القاعدة» وحلفائها بالعراق واليمن. ففيما بين عامي 2005 و2009 استقرت في أذهان كثرة من أهل السنة أنهم يواجهون هجمة أميركية وإيرانية، بحيث يهدف الأميركيون إلى إخضاع الحكومات أو إسقاطها لصالح «الأقليات»، وبحيث يريد الإيرانيون لدوافع قومية ومذهبية الحلول محل الجمهور السني في تمثيل القضايا الكبرى للعرب والمسلمين، والتجاذب والتشارك مع الأميركيين في المساومات عليها وعليهم. وقد عبر عن هذه التوجسات والمخاوف الشيخ يوسف القرضاوي عام 2009 عندما ذهب إلى أن الهجمة الإيرانية سياسية ترمي إلى نشر التشيع الديني وليس السياسي فقط في أوساط أهل السنة!

لقد حسمت الثورات العربية الأمر الآن لغير صالح امتداد الشيعية السياسية. فالجماهير العربية وهي في غالبيتها العظمى من أهل السنة، تريد تولي إدارة شأنها العام، بعيدا عن حكومات الاستبداد، وتحالفات الأقليات. والإسلام السياسي بوجهيه السلفي والإخواني، الذي أطلقت سراحه الثورات، يملك دعوة قوية (مثل دعوة ولاية الفقيه وبالتأصيل ذاته)، للسواد والسيطرة في المجتمعات والدول. ولذا فهو لا يقبل مشاركة الأطراف الاجتماعية الأخرى إلا بصعوبة وخضوعا للضرورات، فكيف سيقبل مشاركة الإيرانيين أو الأميركيين في تمثيل الأهداف أو الطموحات. ولديه الآن شواهد قاطعة على استهدافات إيران والأقليات الأخرى له، من خلال سلوك إيران وحزب الله وحزب الدعوة العراقي، في الأزمة المتأججة بين النظام السوري الأقلوي والجمهور السوري العام.

لقد انقضى الأمر، وأخرجت إيران من دون حرب ولا فتنة إضافية من الوعي العربي العام. أما ثقافة الخصوصية والانفصال والانقسام والغلبة ودعاوى الحق، واستحلال انتهاك أعراف العيش، التي انتشرت جميعها في مرحلة الاستقطاب السابقة؛ فإنها باقية وتحتاج إلى أعمال ومبادرات عاقلة وكبيرة من الطرفين في المجال العربي - العربي، والعربي - الإيراني، وأين منها الآن في هذا المخاض الهائل والحافل بالأعباء والتحديات:

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات خل بالعقيق نسامره