ربّ (جريوك) ياكلك

TT

يتفق الجميع تقريبا على واجبات الآباء تجاه أبنائهم، لكن قلما يلتفتون لحقوق الآباء على أبنائهم.

صحيح أن الحديث كثيرا ما يتردد ويحث على بر الوالدين، وأنه يجب ألا ننهرهما ولا نقول لهما حتى مجرد (أف).. كل هذا صحيح نظريا، أما عمليا فالواقع مع الأسف يقول لنا عكس ذلك تماما.

فما أكثر الأمهات والآباء المنسيين أو المرميين في منازلهم من دون أن يلتفت أو يسأل عنهم أحد من أبنائهم، وإن سأل أحد منهم فسؤاله أو زيارته في أوقات متباعدة هي مجرد (رفع عتب) لا أكثر ولا أقل، لكن هذا لا يمنع من التأكيد على أن هناك الكثير من الأبناء البررة.

والذي دعاني لطرق مثل هذا الموضوع اليوم هو كلام سمعته من آب مقهور من ابنه العاق، وهو الذي رباه وصرف عليه دم قلبه، وأرسله للخارج لكي يتعلم على حسابه رغم إمكانياته المحدودة لمدة ثلاثة أعوام كاملة قبل أن يلتحق بالبعثة، وعندما تخرج وعاد تكفل بنفقات زواجه من مهر وحفل وحتى من شهر العسل، ثم سعى للتوسط له حتى التحق بالعمل موظفا في أحد البنوك.

وبحكم أن ذلك الابن ذكي ومتعلم واجتماعي ومتحدث بارع، فقد استطاع أن يرتقي سلم الوظائف سريعا، كما أنه استطاع بشكل أو بآخر أن يلفت نظر وإعجاب تاجر كبير من زبائن البنك فأغراه للانتقال من البنك والعمل معه، وهذا ما كان.

وبدأت (الصفقات) بالملايين تتوالى، وبدأ الابن يتغير ويتكيف مع شخصيته الجديدة، وأول ما فعله أنه انتقل من منزل والده الصغير القديم، إلى منزل كبير وجديد. وإلى الآن كل هذا أمر طبيعي، غير أن (غير الطبيعي) هو موقفه غير المفهوم وغير المبرر تجاه والده ووالدته كذلك، لأنه قاطعهما تقريبا، وصارحني والده والدمع يترقرق في عينيه بأنه عندما طلب من ابنه المساعدة لدين ينوء به على كاهله، وافقه على (مضض)، وفي اليوم الثاني بعث له مع السائق مبلغا (طفيسا) لا يزيد على (10 في المائة) من كامل الدين (كدفعة أولى)، ويقسم لي بأنه ما إن تسلم المبلغ حتى بكى من شدة الإهانة والأسى، وأعاده مع نفس السائق إليه.

ومثل ذلك الأب ما قرأته (في ريبورتاج) في مجلة مصرية، حيث تحدث أب آخر تجاوز السبعين من عمره، وهو يقول إن لديه أربعة أولاد وثلاث بنات مع أمهم، وحكى قائلا: «ثابرت طوال العمر أعمل وأكدح من أجلهم، كنت أستيقظ مع الفجر، وأزاحم الناس، وأحفر في الصخر لكي أعيّش أبنائي وأكسوهم وأربيهم وأعلمهم من دون أن أنتبه للزمن الذي يسرق من عمري. لم أرتح يوما، ولا حاولت أن أرفه عن نفسي، أو أسعد مثلما يسعد الناس، كل هذه التضحيات فعلتها عن حب وقناعة لأنني أريد أن أرد غوائل الزمن عنهم. غير أن المأساة التي اكتشفتها أخيرا وفاجأتني، أنهم جميعا مع أمهم لم يقدروا لي تعبي وتضحياتي، بل إن الواحد أو الواحدة منهم لا ترد علي حتى السلام، وكأنه مفروض علي أنا وحدي أن أشقى ليسعدوا هم».

ويختم ذلك الأب المسكين كلامه قائلا: «والآن لا أدري ماذا أفعل. إنني مشفق على نفسي، ولا أجد يدا رحيمة تواسيني وتربت على كتفي».

هناك مثل شعبي في أوساط الجزيرة العربية يقول: ربّ (جريوك) ياكلك.

* (جريوك): أي كلبك الصغير

[email protected]