معضلة التناقض.. بين حقوق الإنسان والرأسمالية المتوحشة

TT

عام 1948، نشرت الأمم المتحدة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». فأصبح ذلك اليوم مناسبة سنوية يحتفي بها العالم تحت عنوان «اليوم العالمي لحقوق الإنسان».. ولقد اكتنفت هذه المناسبة العالم منذ قليل، فحاول عدد من دوله وأناسيه تذكير الناس بمضامينها ومقاصدها على طريقته، فلنعد مقالنا في الأسبوع الماضي «الله مع الإنسان ضد الطغيان»: تجديدا للوعي والشعور بحقوق الإنسان، ذلك أن المصدر الأعلى لحقوق الإنسان هو الله جل ثناؤه.. مثلا حق الكرامة هو حق موهوب من الله وحده لكل إنسان، بلا استثناء لأحد من الناس؛ بسبب لونه أو عرقه أو دينه أو مستواه المعيشي، إذ إن آية تكريم الإنسان إنما هي آية عامة مطلقة بنصها ومضمونها:

«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا»:

أ - فتعبير «كرمنا» عائد إلى الله؛ فهو سبحانه (من ثم) مصدر كرامة الإنسان.. ومن معاني هذه المصدرية العليا أن إهانة الإنسان تساوي «الإلحاد» أو الكفر بهذه المصدرية، ولذا طرد إبليس من رحمة الله، بسبب إهانته للإنسان الأول ورده لأمر الله في تكريمه وإعلاء شأنه.

ب - وتعبير «بني آدم» ينتظم «كل بني آدم» لا محالة، والمعنى الإجمالي للتعبير هو أن كل أحد ينتمي إلى فصيلة آدم من الخلق فهو «مكرم» بالضرورة. فالناس سواء في هذه الكرامة، وكل اعتبار يميز بينهم في هذه الكرامة، فيجرد هذا أو ذاك منها بعلة مفتعلة، هو اعتبار ساقط بيقين.

وإذ تغمرنا الفرحة باهتمام البشرية أو الإنسانية بحقوقها، فإن هذه الفرحة يغشاها من الأسى ما يغشاها حين ننظر إلى «الواقع التطبيقي» لشعار حقوق الإنسان.. والنظرة ها هنا ليست إلى الأنظمة المستبدة التي تسحق حقوق الإنسان سحقا منهجيا منظما، إذ لا وزن ولا قيمة - عندنا - لهذه الأنظمة الطاغوتية الكافرة - أصلا - بحقوق الإنسان، المتعاملة معه بطريقة إبليس اللعين؛ طريقة إهانة الإنسان واحتقاره والاستكبار عن الاعتراف بحقوقه التي وهبها الله له.

وإنما تتأتى نظرة الأسى لجهة الذين «يقرون» بحقوق الإنسان، ويتيحون له ممارستها في أكثر من حقل، ولكنهم يتناقضون، منهجيا وتطبيقيا، مع هذه الحقوق حين يقدمون «الربح الرأسمالي» على حقوق الإنسان في أكثر من مجال.

وندرأ وهما، قبل أن يفد إلى الذهن، فنقول: نحن مع الاقتصاد الحر، ولكن بشرط أن لا يطحن هذا الاقتصاد حقا أصيلا من حقوق الإنسان، وإلا تحولت أداة خدمة الإنسان، وهي الاقتصاد الحر، إلى مقصلة لقتل الإنسان، في هذه الصورة أو تلك. ويبدو السلوك متناقضا جدا عند الذين يقرون بحقوق الإنسان في الدساتير والقوانين والقضاء. نعم، يبدو ثمة تناقض بين «الرأسمالية» وحقوق الإنسان، وإن شئت فقل «الرأسمالية المتوحشة»، لئلا ينصب الذم على «رأس المال» ذاته، كما فعل كارل ماركس في كتابه الحامل لذات العنوان.

1 - إن العالم الغربي يقر بحقوق الإنسان، ويتيح مباشرتها «كحق التعبير.. وحق المساواة.. وحق التقاضي»، بيد أنه في مجال معايش الناس وحياتهم (كحق العمل.. وحق الصحة.. وحق التمتع بمستوى معيشي كريم ولائق)، وقع تناقض حاد داخل الديمقراطية الغربية نفسها التي أتاحت للرأسمالية أن تلعب بحقوق العمل والصحة والمستوى المعيشي الطيب.. وهذا التناقض الشديد هو السبب الرئيسي في موجات الاحتجاجات العاصفة التي اجتاحت ما يقرب من ألف مدينة في الغرب؛ فهؤلاء المحتجون لم يعلنوا كفرهم بالاقتصاد الحر، بل احتجوا لأن تطبيق فلسفة الاقتصاد الحر عبر الرأسمالية المتوحشة قد حرمهم من حقوق العمل، والصحة العامة، والمستوى المعيشي المحترم، ومن ثم استعملوا «حرية التعبير»، التي أتاحتها الديمقراطية الليبرالية في الاحتجاج على وليد آخر نقيض من مواليد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، وهو قسوة الرأسمالية، واستهتارها المسرف بحقوق أساسية من حقوق الإنسان.

حقيقة ماذا يبقى من حقوق الإنسان إذا دمر الإنسان ذاته تحت وطأة (لنربح أكثر وليذهب الإنسان إلى الجحيم)؟ وهذه العبارة التي بين الهلالين ليس من تلقائنا، بل هي مضمون كلام لواحد من كبار المضاربين في سوق السلع وهو دوايت أندرسون. فقد قال: «إن الجوع المتزايد في العالم يعني صفقات استثمارية ذات أرباح ضخمة وشبه مؤكدة»!! فهل هناك ذرة من حقوق الإنسان في وحشية أندرسون هذه؟ وحشية الفرحة بانتشار الجوع في العالم، وهلاك الملايين بسببه، ما دامت هذه المجاعات المهلكة تصعد بأرقام الأرباح الرأسمالية إلى أعلى باطراد. ولقد رصدت ظاهرة التوحش الرأسمالي هذه (المضادة لحقوق الإنسان) مؤلفات علمية كثيرة منها، مثلا، كتاب «التعطش للربح: خطر الشركات الكبرى على المزارعين والغذاء والبيئة»، لمؤلفيه: فريد ماجوف، وجون فوستر، وفريدريك باتل (هذه النقول والمراجع من بحث مستفيض لأروى الركابي).

2 - نشبت معركة ساخنة بين المصدرين الرئيسيين والمستوردين الأساسيين للأغذية المعالجة وراثيا. وجوهر المعركة هو أن المستوردين طالبوا (فحسب) بكتابة المكونات الرئيسية لهذه الأغذية على علبها أو أوعيتها، وذلك لكي يتمكن المستهلكون من معرفة ما بداخلها، حفاظا على صحتهم.. لكن المنتجين المصدرين اهتاجوا ورفضوا التعريف بمكونات معلباتهم تلك؛ لماذا؟ لقد عللوا موقفهم الذي يبدو وكأنه مناهض لحقوق «المعرفة»، عللوا موقفهم هذا، بأن التعريف بما في داخل العلب من أغذية إنما هو «انتهاك لسرية معلومات الأعمال والإنجازات والابتكارات النادرة».. وهذه حجة غير منطقية، وغير إنسانية (بمعيار حقوق الإنسان)، فسرية المعلومات لا يجوز أن تكون مسوغا لتجهيل الناس فيما ينبغي أن يعلموه في أمر يتصل بصميم وجودهم وحياتهم، وهو الغذاء الذي تتكون منه خلاياهم ودماؤهم وعافيتهم. يضم إلى ذلك أنه ليس من حقوق الإنسان قط المضاربة بالسلامة الغذائية والصحية للإنسان. وقد تصلح حجة حجب المعلومات في المجال العسكري والأمني، ولكنها لا تصلح البتة في الحقل المدني الذي يقوم أساسا على بذل كل المعلومات المتعلقة بالحياة المدنية للناس كافة، ومما لا شك فيه أن الغذاء شأن مدني، وليس سرا عسكريا، ومن أغرب الغرائب أن الذين يصرون على حجب معلومات تتعلق بغذاء الإنسان وصحته هم أنفسهم الذين ملأوا الأرض كلاما عن «الشفافية»؛ فأي قيمة للشفافية إذا غابت أو عطلت عن حقل صحة الإنسان؟!

في ظل هذه التناقضات والاضطرابات، يتوجب مباشرة طريقة تفكير جديدة في أنفسنا، وفي العالم من حولنا.. طريقة تفكير جديدة تنزع إلى:

أ - أن الغرب لم يعد المثال الذي تنبغي محاكاته، ولا سيما فيما يتعلق بـ«مفهوم الحياة الطيبة»، حسب تعبير زبغنيو بريجنسكي.

ب - أن النظريات التي حكمت العالم ووجهت مصائره عبر عقود أو قرون، تنبغي مراجعتها وتقويمها، سواء كانت هذه النظريات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وأدنى واجبات الاجتهاد ها هنا كف الذات (بصرامة ومعرفة) عن المسارعة إلى تبني هذه النظريات، بحلوها ومرها.

ج - يتعين على العرب والمسلمين أن يتحرروا من ربقة التقليد ومن الكسل الذهني، ابتغاء النهوض بمسؤولياتهم في الإسهام في صياغة نظريات جديدة، تنطلق من منهج الإسلام باعتزاز، وتستصحب بحبور كل تجربة إنسانية صالحة.