دهان الهواء «بوية» خضرا

TT

لم يكد ينتهي مؤتمر البيئة الماراثوني في ديربان إلا وأعلنت كندا انسحابها الانفرادي من اتفاقية بروتوكولات كيوتو للبيئة، التي يدعي مروجو نظرية التسخين الحراري أنها سفينة نوح القرن الـ21 لإنقاذ البشرية من كوارث وفيضانات حذرتنا منها أسفار العهد القديم.

الكنديون، قوم طيبون لا يعرفون المراوغة الدبلوماسية، أعلنوا بصراحة لم نعهدها كصحافيين نتعامل يوميا مع الساسة أنهم «رجعوا في كلامهم» عن الاتفاقية التي وقعتها حكومتهم السابقة، حفاظا على مصلحة الشعب الذي انتخب الحكومة الحالية.

الحفاظ على البيئة هو العقيدة الجديدة للقرن الـ21. وبخلاف الأديان التي عرفتها البشرية متسامحة بـ«لا إكراه في الدين»، أصدر الدعاة البيئيون الفتاوى الصارمة بتوقيع أقصى العقوبات على من يرفض الإيمان بعقيدة القرن 21 وممارسة طقوسها.

فتاوى بهدم أصنام الطاقة التقليدية من فحم وكربون، لتحل محلها «مصادر قابلة للتجديد» (كالرياح وأمواج البحر) وتقديم القرابين على مذبحها في شكل مليارات الدعم المستقطعة من ضرائب تفرض على العاملين والمسافرين بوسائل المواصلات، وإضافة رسوم باهظة إلى فواتير كهرباء الأسر التي تجاهد من أجل لقمة العيش وتعليم الأولاد وتدفئتهم في الشتاء القارس البرد. وفتاوى بفرز ما اعتدنا إلقاءه في سلة القمامة، ليتوزع بين صناديق مختلفة يرفض الزبالون نقلها ونتعرض لغرامة من المجلس البلدي إذا خلطنا الجرائد القديمة بكرتون علب الأحذية التي تشتريها الهانم المصون أسبوعيا، أو تركنا الغطاء المعدني مع الزجاجة في صندوق التدوير المخصص.

بوليس تطبيق فتاوى البيئة من البيروقراطيين الذين اخترعت وظائفهم بروتوكولات كيوتو وفرمانات الاتحاد الأوروبي. المحير كيف تمكنت البشرية من إنجازات سبعة آلاف عام من بناء الأهرام حتى الهبوط على المريخ دون هذه الوظائف التي يعجز مؤلف سبعة كتب مثلي عن ابتكار أسمائها ناهيك عن مهام شاغليها؟ جيش من أخصائيين و«علماء» بيئة، ومفتشين وكالات أمن قومي نسيت مكافحة الإرهاب وحماية الوطن لتتفنن في إخفاء كاميرات جيمس بوند في صناديق القمامة لضبط أرملة ضعيفة البصر ألقت علبة التونة الفارغة خطأ في صندوق البلاستيك أو الكرتون، فتعاقبها البلدية بغرامة تبلغ ضعفي معاش زوجها الذي مات في حرب كوريا.

مرتبات بوليس البيئة وميزانية معدات التجسس وبرامج إرشاد المستهلك (رغم أنفه) مصدرها الضرائب العامة بينما تستقطع الحكومة من ميزانية الصحة والتعليم والدفاع لسد عجز الميزانية بسبب الأزمة الاقتصادية. جنود جيش البيئة لم، ولا، ولن يساهموا في الدخل القومي بإنتاج سلعة للاستهلاك أو التصدير، أو بناء مسكن أو مستشفى لإيواء الناس أو علاجهم؛ فمهمتهم إنقاذ العالم من كوارث يتنبأون بها بلا تقديم أدلة خارج تصورات كومبيوترات غذيت بمعلومات مجهولة المصادر ولا توجد براهين علمية على صحتها. باختصار وظائف تعرفها المادية الجدلية بـ«الطفيلية» لتشكيلها أعباء على ميزانية البلدان الملتزمة بتطبيق بروتوكولات كيوتو دون أن يضيف شاغلوها حفنة دولارات إلى اقتصاد البلاد.

أصيب العلماء الكنديون بالغيرة من الليبيين الذين سبقوهم إلى التخلص من مسيلمتهم صاحب خزعبلات الكتاب الأخضر، فتسلحوا بأبحاثهم لإقناع ساستهم بأن بناء معابد ممارسة طقوس كيوتو لدخول الجنة الخضراء سيتجاوز الوقت الذي حدده كهنة البيئة فتدفع كندا غرامات تكلف اقتصادها 13.6 مليار دولار. كيوتو تلزم كندا بتخفيض استهلاك الطاقة في نهاية 2012 بمعدل 6% أقل من أرقام 1990. استهلاك كندا رغم الكساد الاقتصادي، سيزيد في الأشهر المقبلة عن 17% من استهلاك 1990. سيتعطل البناء والنمو الاقتصادي والإنتاج، ويحيل مئات الآلاف من عمال المصانع وسائقي الشاحنات إلى ملجأ البطالة.

المعلقون المحايدون يراقبون أرقام وإحصائيات الطاقة الخضراء، للتوصل إلى حقيقة الأمر حسب حقائق علمية محايدة، فيدينهم اليسار «كمشككين» في عقيدة التسخين الحراري بأسلوب إدانة الفاتيكان لغاليلليو.

هناك حقيقة علمية حسب تقارير البيئيين في مؤتمر كوبنهاغن: لو هدمت بريطانيا كل محطات توليد الطاقة وعادت إلى عصر الخيول والإنارة بالشموع فستنظف جو العالم من 2 في المائة فقط من غازات «الاحتباس الحراري»، الرقم تضيف الصناعات الصينية ضعفيه إلى الجو في شهر واحد.

يطالب اليساريون بإغلاق محطات توليد الطاقة في بريطانيا ولا يطالبون الصين ببناء مفاعلات نووية لا تلوث البيئة لتنتج كهرباء تشحن بطاريات سيارات تسير بالكهرباء بدلا من البترول. اليسار يتحجج بمنح الصين فرصتها التاريخية للحاق بالغرب «الاستعماري»: هل الدعوة بيئية أم سياسية إذن؟.

فتوصيات كيوتو، مثل جدل اليسار، تنبت من تربة أيديولوجية مزدوجة المعايير وليس من تحليل يرتكز على حقائق علمية وأرقام من الواقع الاقتصادي.

فبعد مؤتمر الأرض في البرازيل قبل عقدين، ثم كيوتو وكوبنهاغن، نشأت صناعة جديدة لا تعتمد على مناجم أو مزارع أو مصانع تشغل عمالا، بل إنتاج تقارير معقدة المعلومات بتوقعات لتخويف الناس بشطارة ابن البلد الذي باع الترام للعمدة القادم من الصعيد في فلكلور الإسكندرية.

فإلى جانب جيش المستفيدين من إرشاد المواطنين «بالعافية» والتفتيش في صناديق قمامتهم، هناك مثلا مراكز أبحاث البيئة التي يديرها أكاديميون لا يعلمون التلاميذ ما يضيف إلى إنتاجية الوطن، بقدر ما يدربونهم على التلاعب في الأرقام واختراع معادلات تدخل في الكومبيوتر ليخرج بنتيجة متوقعة مفادها أنه إذا لم ننفق 22 مليارا في السنوات العشر القادمة على بناء طواحين هواء لا يصلها رمح دون كيشوت سيغمر الأرض طوفان يقضي على البشرية.

في بريطانيا حكومة ائتلاف المحافظين مع الديمقراطيين الأحرار (المهووسين بفانتازيا البيئة)، فيصر الأخيرون على إقامة عشرات الآلاف من طواحين هواء تدير توربينات يدعون أنها ستنتج أكثر من ثلث الطاقة التي يحتاجها الاقتصاد بحلول عام 2020. وظهر جيش من أخصائيي العلاقات العامة «لبيع الترام» بدعم صناعة «الطاقة الخضراء» من الهواء. مصدر الدعم إضافة الثلث على فواتير كهرباء المنازل. ويرد البيئيون بخفض الاستهلاك بتجديد النوافذ وإضافة مواد عازلة للحرارة في بيوت بنيت في القرن 19، بتكاليف ليست في متناول 90% من الشعب.

ولأن الكهرباء تشغل الموصلات وأجهزة مستشفيات تبقي المرضى على قيد الحياة، فلا بد من استمرار التيار الكهربي دون انقطاع. ولاستحالة التحكم في هبوب الرياح أو سرعتها، فإن كل محطة لتوليد الكهرباء من طواحين الهواء يجاورها محطة احتياطية تشغل بالغاز المستورد تدار على مدى 24 ساعة (لإبقاء مراجل البخار ساخنة وجاهزة لتشغيل توربينات توليد الطاقة) في حالة توقف الرياح أو انخفاض سرعتها أو زيادتها إلى حد حرق التوربين كما حدث قبل أسبوعين. وهذا مثال واحد على تحميل الأسر ميزانية إبقاء جيش بيروقراطية البيئة. الفهلوية كبائع الترام يعبرون عن شطارتهم بالقول «إحنا إللي دهنا الهوا بوية».. وأضيف: خضراء.