سياسة المعاندة وإنهاك الخصم

TT

في ضوء الحالة السياسية العائمة في العراق، فإن أسوأ الاحتمالات المطروحة قابلة للتحقيق، وخاصة بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق نهاية الشهر الحالي، ومنها تقسيم الدولة وتفتيتها إلى أقاليم ودويلات صغيرة أو الدخول في حرب أهلية عرقية وطائفية شاملة، أو العودة إلى النظام الديكتاتوري ولكن بمسوح طائفي ومذهبي، وقد ظهرت بوادر من هذه السيناريوهات المحتملة منها؛ المشروع الذي تقدم به رئيس الجمهورية جلال طالباني للبرلمان، الخاص بإعادة ترسيم الحدود الإدارية للمحافظات المشمولة بقرار 140 من الدستور إلى وضعها السابق، تزامنا مع دعوة المحافظات «السنية» إلى تشكيل أقاليم شبه منفصلة عن حكم وسطوة الحكومة المركزية التي تهيمن عليها الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وخاصة أن إعلان تلك المحافظات جاء عقب عمليات اعتقال حكومية واسعة شملت قطاعات واسعة من جماهيرها، بحجة أنها من فلول النظام السابق، كانوا بصدد استغلال حالة الفراغ الأمني في البلاد بعد خروج القوات الأميركية لتنفيذ عملية انقلابية عسكرية على النظام القائم، الأمر الذي فسر بأنه بداية غير مبشرة لحملات أخرى طائفية واسعة لاستهداف مناطقها.. ويرى بعض المراقبين السياسيين والمؤيدين لفكرة إنشاء الأقاليم، أن حالة التوجس والفزع التي تبديها المناطق السنية بشكل عام من احتمال وقوعها في المستقبل تحت طائلة الاعتقالات والمطاردات من هذا النوع بهدف فرض حالة سياسية معينة - لها ما يبررها، فالأحزاب الشيعية الحاكمة دأبت منذ فترة وخاصة بعد اعتلاء «المالكي» لسدة الحكم على انتهاج أسلوب سياسي يتميز بالمراوغة والمعاندة والتسويف وجر الخصم إلى اليأس والإنهاك، ومن ثم دفعه إلى التسليم والرضوخ للأمر الواقع والقبول بأقل ما يقدم له من مكاسب، فعله «المالكي» مع خصومه السياسيين في مواقع عدة ونجح فيه، فعله عام 2010 عندما وقف في وجه كافة القوى الوطنية السياسية وأصر على تشكيل الحكومة القادمة ليصبح رئيسا للوزراء للدورة الثانية على الرغم من فوز القائمة العراقية بالانتخابات العامة، وكذلك مارس هذه اللعبة السياسية الجديدة، وعلى نطاق واسع، مع الأحزاب السنية والكردية على حد سواء، دخل في صراع بيزنطي طويل مع «إياد علاوي»، رئيس القائمة العراقية، في مسألة الشراكة الوطنية والوزارات الأمنية ومجلس السياسات العليا وجعل الرجل، وهو سياسي مخضرم له باع طويل في العمل السياسي، يصاب بالإعياء والتعب ويستسلم ويعلن على الملأ أنه زاهد عن المناصب وعن الوزارات وعن مجلس السياسات العليا، ويرفض المشاركة في أي حكومة يرأسها المالكي!

وفعله أيضا مع الأكراد في مسائل النفط والغاز وقضية المادة 140 الخاصة بالأراضي المتنازع عليها، وظل يعدهم ويمنيهم بتطبيق بنودها منذ 2005، ويشكل لجانا لهذا الغرض، ويقوم بين الفينة والأخرى بتمويلها بمبالغ رمزية لذر الرماد في العيون ولكي لا يقال إن سيادته يخالف الدستور، ولكنه في الوقت نفسه يضع عقبات أمام عملها، وهكذا تعامل مع كافة المسائل الأخرى المطروحة على الساحة السياسية العراقية..

لذلك، لا نستغرب أن نجد أن معظم المشاكل والقضايا التي يعانيها الشعب العراقي ويختلف عليها السياسيون، ظلت من دون علاج منذ أن تولى نوري المالكي سدة الحكم، على الرغم من اللجان «المتخصصة!!» الكثيرة التي تشكلت لهذا الهدف.. ولم تقتصر هذه السياسة على رئيس الوزراء فحسب، بل مارسها القيادي في حزبه (حزب الدعوة) «خضير الخزاعي» أيضا وسار على نفس نهجه، عندما أصر على أن يأخذ منصب نائب رئيس الجمهورية عنوة ورغم أنف جميع القوى السياسية والبرلمانيين، الذين رفضوا ترشيحه لهذا المنصب..

إن استمرار زعماء حزب الدعوة الحاكم في ممارسة سياسة لي الذراع تجاه الكتل والقوائم السياسية الرئيسة في البلاد واستغلال الأزمات الأمنية والسياسية القائمة لفرض إرادتهم عليها، لا تثير سخط الجماهير وتبرمها من هذه السياسة الانتهازية، فحسب، بل تجعلها تعيد النظر في كافة المفاهيم الوطنية التي ظلت لسنوات تتمتع بقدسية خاصة، ومن ضمنها وأهمها؛ وحدة الأراضي العراقية.