شرق أوسط يغلي!

TT

في مناسبة مشتركة مقتضبة جمعت بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، في العاصمة الأميركية واشنطن وتحديدا في البيت الأبيض، تم الإعلان عن انسحاب القوات العسكرية الأميركية رسميا من العراق، وتلت ذلك زيارة وزير الدفاع الأميركي إلى العاصمة العراقية بغداد لإجراء مراسم إنزال العلم الأميركي ورفع العلم العراقي، في مناسبة جافة غاب عنها الحضور العراقي الرسمي بشكل واضح ظاهريا على أقل تقدير.

انتهت رسميا مغامرة جورج بوش الابن وجماعته من المحافظين الجدد، التي أدت إلى غزو العراق بناء على ادعاءات روج لها، وقيض الجيش الأميركي إليها، وكلفت الآلاف من الأرواح من الجيش الأميركي ومن الأبرياء العراقيين، والبلايين من الدولارات الأميركية التي تسببت في خراب ودمار اقتصادي لأميركا أدخلها في دوامة سوداء لن تفيق منها لسنوات طويلة.

العراق اليوم دولة تخلصت من حكم الطاغية صدام حسين، وحلت حزب البعث الهمجي، لكن عدم تعقل الإدارة الأميركية حينها واتخاذ قرار الغزو العسكري ومراحله اللاحقة أدت إلى سقوط واضح للحكم العراقي في المستنقع الطائفي بامتياز، وليس ما يمارس من تعذيب وقبض «جماعي» على عناصر مختلفة من أهل السنة في العراق إلا تأكيدا على هذه المسألة، مع عدم إخفاء دلائل النمو المتعاظم للنفوذ الإيراني السياسي والأمني والعسكري على العراق وحكومته، لكن في الملف الاقتصادي لم تستطع إيران تقديم ما يميزها، وكان التميز المفاجئ هنا للأتراك الذين تمكنوا لجودة منتجاتهم وبضاعتهم وخدماتهم من الاستحواذ على كم غير بسيط من مشاريع تنفيذ المقاولات وتوريد السلع والأجهزة والمعدات لمختلف القطاعات، مما جعل لتركيا «مكانة» مهمة أوصلتها لأن تكون صاحبة نفوذ وثقل باستخدام القوى الناعمة الاقتصادية من دون خطاب ديني موتور ولا طائفي ولا مناطقي ولا تدخل عسكري وأمني، وهو الأمر الذي جعل من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي «يحذر» من تنامي الخطر التركي في العراق، وهو تحذير يدعو للسخرية والضحك لأن نوري المالكي بهذا النوع من التصريحات يحاول تغيير الموضوع ومنع الحديث عن «الغوريلا» الكبيرة في محل الخزف، والمعنى هنا الوجود الإيراني المهول في الشأن العراقي، وهو الأمر الذي يصفه المالكي بأنه علاقة طبيعية مع دولة جارة!

وطبعا التنامي المهول للنفوذ الإيراني في العراق ما كان ليحدث إلا بسبب الغزو الأميركي له، والذي «هندسه» بول وولفويتز مساعد وزير الدفاع الأميركي في حقبة جورج بوش الابن، وكان يعتمد كثيرا جدا على استشارات الثلاثي: أحمد الجلبي وهو شخصية عراقية مثيرة للجدل، وفؤاد عجمي وهو أكاديمي لبناني جدلي، ووالي نصر وهو أكاديمي أميركي من أصول إيرانية. واليوم تستخدم الفزاعة الإيرانية بشكل مميز لإعادة إحياء نفوذ المحافظين الجدد مرة أخرى، كما يظهر من مناظرات مرشحي الرئاسة الأميركية للحزب الجمهوري وحملاتهم الانتخابية واعتمادهم على تخويف الرأي العام الأميركي من الخطر الأهم على أميركا وهو تملك إيران للسلاح النووي وتهديدها لإسرائيل والولايات المتحدة، متجاهلين النمو العسكري الواضح للصين وروسيا وتزايد نفوذهما، ولكن مع ذلك تظل إيران الخطر الأكبر على الولايات المتحدة بسبب الجمهوريين بصورة رئيسية. ويأتي هذا الطرح وسط تغييرات مهولة وغير مسبوقة تشهدها المنطقة العربية مع نتاج الربيع العربي الذي أطاح بالجمهوريات المستبدة، وبدأت ملامح ديمقراطية شعبية حقيقية تأتي نتاجها المبهر.

الأنظمة القمعية في العالم العربي وكذلك إيران ما كانت لتقوم وتستمر إلا لقدرتها على ترويج نفسها على أنها أنظمة قائمة على فكرة «مقاومة إسرائيل»، وهي دولة تجاوزت وخالفت كل المواثيق والأعراف والقوانين الدولية بلا رادع ولا عقاب، فهي احتلت الأراضي، وقتلت الأبرياء، وأسست نظاما عنصريا فظا، وقتلت وسجنت الآلاف، وخالفت قرارات حقوق الإنسان والأمم المتحدة، وتمتلك السلاح الكيماوي والنووي، واستخدمت الأسلحة المحظورة ضد الأطفال والنساء العزل، لذلك تبقى إسرائيل هي المشكلة الحقيقية الأولى في الشرق الأوسط، وسيطالها الربيع العربي برياحه قريبا جدا، وقد استشعر اليمين المتطرف الإسرائيلي ذلك الأمر وقرب وقوعه وهو الذي يفسر الازدياد المهول في الاعتداءات على مساجد العرب في فلسطين إلى أن بلغ الأمر أن تم الاعتداء على ثكنة عسكرية للجيش الإسرائيلي نفسه من قبل مجموعة «شباب التل» اليمينية اليهودية المتطرفة.

الشرق الأوسط مقدم على مرحلة غليان من نوع آخر قريبا جدا.

[email protected]