كركوك بعد الانسحاب الأميركي

TT

قد يكون خط الصدع العرقي الذي يقسم شمال العراق ما بين عرب وأكراد بخطورة أي صدع جيولوجي؛ إذ إن الهزات التي يحدثها أحيانا مدمرة بنفس درجة دمار الزلازل التي تقاس على مقياس ريختر. إلا أن الأمور، منذ عام 2003 على الأقل، هادئة على طول هذا الخط، حتى لو أفاق سكان المنطقة في بعض الأحيان على أصوات تملأ نفوسهم بالقلق. يمكن المحاججة أن العلاقات بين العرب والأكراد، وبين بغداد وأربيل، أفضل الآن مما كانت عليه منذ الاضطرابات التي رافقت تفكك الإمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمان تقريبا. شهدت العقود التالية موجات لا نهاية لها من القمع والاضطراب والتسويات المضطربة التي كانت تتبعها دائما موجات قمع أخرى.

لعل أحد أسباب هذا التحول المفاجئ هو أن الولايات المتحدة، على الرغم من كل الأخطاء والعثرات التي ارتكبتها منذ غزوها العراق عام 2003، وجدت وسيلة لإرساء الهدوء النسبي في شمال البلاد؛ حيث نصبت حكومة محلية في كركوك عام 2003 لم تحظَ باستحسان أي من الجماعات العرقية، إلا أنها أثارت استياء الجميع على حد سواء (على الرغم من اختلاف الأسباب)، مما صب غيظهم على واشنطن بدلا من توجيهه إلى بعضهم البعض. سمحت الانتخابات التي تلت ذلك للأكراد باكتساب مكانة سياسية، إلا أن الوجود الأميركي وخصوصية المنطقة متعددة الأعراق شجعا الوصول إلى درجة من التعددية السياسية وتقاسم السلطة على الرغم من تذمر عرب وتركمان كركوك من الهيمنة الكردية. علاوة على ذلك، في أواخر عام 2009، وردا على أحداث العنف التي كان من الممكن أن تؤدي إلى التصعيد العسكري، أنشأ الجيش الأميركي نقاط تفتيش عربية - كردية وقام بتسيير دوريات عربية - كردية مشتركة على طول ما يسمى «خط الزناد» وذلك بسبب قابليته الكارثية للانفجار.

إلا أنه في غضون شهر ستكون القوات الأميركية قد انسحبت كليا من العراق. هذا وقد تم سحب الجنود الذين ألحقوا بهذه الدوريات ونقاط التفتيش بالفعل. سينحصر الوجود الأميركي في الشمال على قنصلية في كركوك يعمل بها دبلوماسيون وعدد صغير من الضباط العسكريين العاملين بموجب «مكتب التعاون الأمني» التابع للسفارة الأميركية في بغداد. وسيبقى هؤلاء يشكلون جزءا من «مركز التنسيق المشترك في كركوك» الذي يرصد جهود حفظ السلام بين العرب والأكراد. أما السؤال الذي يطرحه الكركوكيون وأصدقاؤهم في الخارج على أنفسهم هو ما إذا كان سيؤدي هذا الخفض الحاد في عدد الجنود إلى اندلاع أعمال العنف.

لقد كانت الولايات المتحدة صديقا أقرب للأكراد من أي مجموعة أخرى في العراق، ويُعزى ذلك إلى دعمهم الوفي لها منذ غزوها للعراق، ورد الأكراد على هذا التقرب بالمثل. إلا أن قيادتهم تبقى محترسة من القوى العظمى. فعلى الرغم من أن الأكراد لم يحظوا بحامٍ بقوة الولايات المتحدة من قبل، فإنهم تلقوا درسا من تحالفاتهم السابقة التي لم تدُم طويلا مفاده ألا يثقوا بأي قوى خارجية لأنها ستتحكم لا محالة بهم لضعفهم نسبيا لتحقيق مصالحها الجيوستراتيجية. لنتذكر هنا تصريح هنري كيسنجر بأن واشنطن لم تكن منخرطة في العمل التبشيري بعد أن تركت الولايات المتحدة الأكراد لمصيرهم عام 1975 بعد أن دفعتهم للاعتقاد أنهم قادرون على الانتفاض ضد النظام في بغداد. لنتذكر أيضا أنه في أعقاب حرب الخليج عام 1991، شجع الرئيس جورج بوش الأب العراقيين على التخلص من هذا النظام نفسه، ثم رفض التدخل عندما وجه صدام الدبابات ومدافع الهاون وطائرات الهليكوبتر ضدهم.

ولهذا السبب، فقد استغل الزعماء الأكراد الغزو الأميركي للعراق على مدى السنوات الثماني التي أعقبته لتنويع حلفائهم الخارجيين وإغرائهم بثروات كردستان النفطية والغازية، وذلك للعثور على الحماية عند الحاجة لها في المستقبل.

لم تتمكن حكومة نوري المالكي من إيقاف سيطرة الأكراد الزاحفة على المنطقة التي كانت عزيزة على قلب النظام السابق، لدرجة أنه انهمك في عملية «تعريبها» بالجملة، مشردا بذلك الأكراد والتركمان على حد سواء وفي عملية إبادة منهجية لعشرات الآلاف من الأكراد في المناطق الريفية في حملة الأنفال لمكافحة التمرد 1988. وعلى أبعد تقدير، فقد تمكنت بغداد بمجرد إبطاء التقدم السياسي للأكراد من خلال رسم خط حقيقي قامت بزرع قواتها على طوله. لكن حتى هذا الخط لم يعد الخط الأخضر الذي كان يشكل حدود الأكراد قبل عام 2003، وإنما بحكم الأمر الواقع «خط زناد» حدودي جديد لما غدا رقعة كردستان الموسعة والغنية جدا بالنفط.

وقع أحدث تصعيد للعنف في وقت سابق من هذا الشهر عندما تسلمت القوات الحكومية السيطرة على مطار كركوك العسكري من القوات الأميركية على الرغم من اعتراض المحافظ الكردي وأنصاره الذين لطالما أرادوا تحويله إلى مطار مدني. وكما حدث في الماضي، فقد تدخلت السفارة الأميركية وتم التوصل إلى تسوية للإبقاء على ميزان القوى الهش الحالي من خلال إبقاء القوات الحكومية مقابل وعد المالكي بأنه سيتم تحويل المطار للاستخدام المدني يوما ما.

سيقلص تراجع الوجود الأميركي العسكري من قدرة واشنطن على تهدئة الانفعالات عندما يقوم أحد الجانبين بتجاوز حدوده، كما فعل الأكراد عندما نشروا قوات عسكرية في مدينة كركوك في فبراير (شباط) 2011. لا بغداد ولا أربيل ستبقى مكتوفة اليدين في حال أو عندما ترى عدوها يتجاوز خط الزناد. إلا أن قدرة واشنطن على الضغط على الأكراد وكبح جماحهم أكثر فعالية نسبيا من قدرتها على الضغط على بغداد، وذلك لأنها قوضت قدرتها على الضغط هناك، وذلك بسبب مصلحتها الواضحة في إبقاء العراق بإحكام ضمن إطار الاستراتيجية الأمنية ضد إيران. أما بالنسبة للأكراد، فهذا يعني أن عليهم مضاعفة الجهود لتنويع حلفائهم من خلال البحث عن العزاء في الجارة تركيا التي كانت حتى عهد قريب خصما، أما اليوم فقد تصالحوا معها وتبادلوا القبل، بالإضافة إلى حكومات عدة، فاتحين بذلك الأبواب أمام الكثير من الشركات من هذه الدول التي توافدت إلى كردستان للحصول على نصيبها من وليمة النفط والغاز.

يتوقع القادة الأكراد من أسيادهم الجدد توفير الحماية لهم، كما يأملون منهم أيضا تقديم الدعم الدبلوماسي لمسعى الاستقلال الذي من المؤكد أن يشرعوا فيه يوما ما. يلف الغموض دور تركيا في هذا المخطط؛ فهي قوة صاعدة لها كل المصلحة في شراء أو نقل نفط وغاز كردستان. لكن على نحو متناقض إلى حد ما فإن لديها كل المصلحة أيضا في إبقاء الأكراد ضعيفين لئلا يعطوا إخوانهم في جنوب شرقي تركيا أفكارا حول الحكم الذاتي، أو حتى، ومما ينذر بشر مستطير، إحياء الفكرة الكامنة حتى الآن في إقامة كردستان الكبرى. فإذا كان للأكراد العراقيين تحقيق حلمهم في إقامة الدولة، فإنه من الضروري بالنسبة لأنقرة أن يتم ذلك تحت سيطرة تركيا الصارمة. لكن في هذه الأيام، تحتاج تركيا إلى الأكراد على نحو متعاظم إثر تضاؤل نفوذها في بغداد بعد أن راهنت على الحصان الخاسر في الانتخابات البرلمانية عام 2010 عندما استثمرت أنقرة الكثير في قائمة إياد علاوي التي اعتبرتها حاجزا ضد النفوذ الإيراني، إلا أن المالكي أطال ولايته كرئيس للوزراء بمساعدة إيران وسوريا، كما أن تلاعب تركيا لم يرُق للمالكي، مما أدى إلى تدهور العلاقات بينهما.

ينصب الاهتمام هذه الأيام على دمشق؛ حيث من شأن انهيار النظام أن يعيد نسج التحالفات في المنطقة بأسرها. سيخفت نجم إيران ومعه نجم المالكي. وسيكتسب الأكراد قوة نسبية، وبالتالي فقد يشتمّون فرصة المضي قدما باتجاه كركوك. هل سيبقى المالكي عندها قادرا على كبح جماحهم؟ وإذا تمكن بالفعل، فما سيكون ثمن ذلك؟ وفي حال اندلعت أعمال العنف على طول خط الزناد عندما يبدأ يتغير مساره، فإنه من الممكن أن يكون ذلك مخاض ولادة دولة غنية بموارد الطاقة تابعة لتركيا يديرها الأكراد وتحظى بدعم دولي كبير.

* نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية