العراق بين «احتلالين»

TT

بعض العراقيين متوجسون من حصول اتفاقيات سرية تمنح قوات أميركية البقاء في العراق تحت أي مسمى أو حاجة. هذا صحيح، ولكن هناك عراقيين يمنون أنفسهم ببقاء القوات الأميركية تحت أي ذريعة، رغم أنها في نظرهم قوات احتلال، خوفا من هيمنة كاملة للإيرانيين على العراق.

في كلمته للشعب الأميركي بعد خروج القوات الأميركية من العراق كان الرئيس أوباما يراوغ ويخادع. ليس العرب فقط، بل كل جندي أو مواطن أميركي كان مستمعا للرئيس يعلم أن ما يقوله أوباما هو محض هراء. أميركا لم تترك خلفها عراقا ذا سيادة، بل أسقطت نظاما ديكتاتوريا ضعيفا وكامنا وخائفا ليحل بدلا عنه نظام منقوص السيادة هائج ذو نزعة انتقامية. ولم تؤسس أميركا لنظام ديمقراطي في العراق، لأن الديمقراطية إن لم تكن حرة فهي ديكتاتورية في صندوق اقتراع. أوباما كسابقيه من الرؤساء الأميركيين يعيشون حالة تلون ما قبل الانتخابات، لقد وقف كما وقف الرئيس الأميركي السابق ليندون جونسون متورطا في حرب فيتنام يساوم على عدد أفراد الجيش الأميركي ووقف إطلاق النار فيها ليسترضي الناخبين، ولم يرضوا.

خسرت أميركا في العراق تريليوني دولار و4500 جندي أميركي من أجل أن تصنع نصرا لإيران هو بالنسبة للأصولية الإيرانية أهم بتريليوني مرة من امتلاك صاروخ نووي.

بعد أن أسقطت نظام صدام حسين، سرحت القيادة الأميركية أفراد الجيش العراقي، فلما جاعوا وجدوا في الانضمام للميليشيات المسلحة مصدر عيش، فتحول الجيش النظامي إلى ميليشيا، وانخرط الأفراد المدنيون في حرب شوارع. وبانفلات العسكريين من معاقلهم المنظمة كانت أميركا تزيد من خصومها، وزادت من سوء إدارتها بأن فتحت البوابة الشرقية للعراق فتدفق العسكر الإيرانيون بمعداتهم وأموالهم ليتوغلوا في عمق المناطق العراقية حتى المحسوبة على القبائل السنية. لم تصغ الإدارة الأميركية للتحذيرات التي وصلتها من الخليجيين حول خطر تفكيك الجيش العراقي وجعل البلد عرضة للمسلحين الأجانب من الجارة الإيرانية المتوثبة. الأميركيون يجهلون الكثير من حسابات المنطقة ويستكبرون عن التوجيه، ولم يكن بين أعينهم سوى هدف «القاعدة» والتنظيمات الأصولية السنية، فكانوا أولوية فوق كل أمر آخر.

بمرور الزمن المليء بالأحداث الدامية استيقظ الأميركيون على تقارير تؤكد أن ميادين تدريب عناصر من تنظيم القاعدة تقع في إيران، وأن قيادات من التنظيم لها اتصالات مع قيادات إيرانية متفقين على هدف واحد وهو إيقاع الهزيمة المذلة بالجيش الأميركي في العراق. كانت فرصة الوقاية قد ولت وتضاعف أعداء الوجود الأميركي كما ونوعا، فلم يكن هناك إلا حل الإسراع بإرساء نظام ديمقراطي والخروج في أقرب وقت، فظهرت ديمقراطية مشوهة لأنها ولدت من رحم احتلالين.

بعد انقضاء تسع سنوات، تسلم أميركا العراق للإيرانيين للمرة الثانية وتتذرع للخروج بأن المهمة انتهت. والمهمة لم تنته بل استوت في المنتصف، فالعراق كان بالنسبة للإيرانيين حليفا إضافيا مع النظام في سوريا وحزب الله في لبنان. أما اليوم فهو كل ما تملكه إيران بعد سقوط نظام الأسد وإضعاف حزب الله، أي أنه غرفة الإسعاف لإنقاذ وضعها المرتبك، وسترمي بكل ثقلها ليكون نقطة انطلاق لعملياتها العسكرية أو السياسية أو اللوجيستية. العراق بكل أسف أصبح غنيمة سهلة للإيرانيين، خاصة مع قرار الدول العربية النأي بنفسها عن القضية العراقية منذ الاحتلال الأميركي عام 2003.

يقول بعض المحللين إن العراق للأميركيين يشبه فيتنام من حيث نتيجة المعركة، حيث خرجت أميركا ولم تنتصر، ولكنها كانت حربا مهمة ليس لتحقيق النصر بل منعا لما هو أسوأ لو لم يتم التدخل. يظنون أنه لولا حرب فيتنام لاكتسح المد الشيوعي العالم من الكرملين وحتى رأس الرجاء الصالح، وبالمثل يظنون أنه لولا احتلال أميركا للعراق لكان نظام صدام حسين أصبح تهديدا حقيقيا للعالم ولدول المنطقة ومنها إسرائيل.

ولكن هل إسقاط نظام صدام حسين أرسى نظاما ديمقراطيا وخلق عراقا مستقلا ذا سيادة؟ وهل الخروج الأميركي من العراق في هذا التوقيت سيحقق أمن المنطقة وإسرائيل؟

يقول الديمقراطيون في أميركا إن التاريخ سيجيب عن هذه الأسئلة. ولكن لماذا ننتظر التاريخ ليجيب، فإن كان العراق مثل فيتنام فيمكننا استنباط الإجابة من السؤال التالي: هل انهار الاتحاد السوفياتي بسبب حرب فيتنام؟ أو طرد السوفيات من أفغانستان؟