مقياس المدنية

TT

يعتمد الباحثون على شتى المقاييس والأرقام في تقييم مستويات الدول. هناك من يشير للدخل القومي أو احترام حقوق الإنسان أو مقدار استهلاك الكهرباء أو الماء النقي أو نسبة الأمية أو عدد المطبوعات سنويا، وهلم جرا. لكن لي مقياسي الخاص. المقياس القشطيني للمدنية. وهو يعتمد بكل بساطة على حالة المراحيض في الدولة. واعترف بأنه ليس من اختراعي، وإنما اقتبسته من السيدة جل بيهان. وهي صحافية متخصصة في تقييم المطاعم والفنادق. سألتها، كيف يا عزيزتي جل تقيمين المطاعم وتعطين درجاتها؟ قالت اسمع هنا. لا تلتفت لمقاعدها وأثاثها، كلا، ولا لقائمة أطعمتها، ولا حتى مذاق مأكولاتها أو جودة مطبخها. اذهب رأسا لدورة المياه فيها وانظر حالتها. إنها تعطيك أحسن فكرة عن نظافة المطعم والمطبخ وخدمة وجودة مأكولاته.

من حينها توسعت في هذا المقياس في تقييم مستويات الدول. انطلاقا من هذه الحقيقة، وهي أنه بفضل انتشار ظاهرة تلويث البيئة، بات بإمكاننا أن نقول هذا العالم الذي نعيش فيه أصبح مجرد مرحاض كبير. كان شكسبير يقول العالم مسرح. وأنا أقول العالم مرحاض. انظروا لما فعله بعض حكامنا في الدول التي حكموها. انظروا لأحوال بغداد والقاهرة الآن. خير مثال للعالم المرحاض.

لا أدري كم من قرائي يتذكرون (وهو ما لا أتوقعه منهم والحمد لله) ما قلته قبل سنوات في قياس مدنية الدول. أعطيت السويد أعلى درجة. ففيها تقضي حاجتك في أنظف طهارة وأنت تستمع لموسيقى موتزارت وباخ وسواهما. تخرج وتغسل فتجد فتاة حسناء تسلمك منديلا جديدا نظيفا لتنشف يديك. ولا تخرج إلا وتسمعها تحييك وترجو لك يوما طيبا. تعبر البحر إلى ألمانيا فتجد نفس المستوى من النظافة ولكن الفتاة فيها لا تعطيك منديلا وإنما تطلب منك أجرة المرحاض. ويبدأ التدهور الحضاري بتحركك جنوبا نحو الشمس، حتى إذا وصلت منطقتنا...، فاسكت يا قشطيني قبل أن يذبحوك.

المرحاض ليس هو العالم فقط، بل ومصدر الوحي لكل مفكر. فهذه المقالة مثلا أوحت لي بها زيارتي لدورة مياه كنيسة سان ماري في منطقة بتني بلندن. وجدت فيها كل ما تشتهيه الأنفس. هناك قنينة لتعقيم اليدين وحنفية تعطيك ماء بالحرارة المناسبة، لا بارد لا ينفع ولا حار لا يرحم.

المغسلة من النظافة بحيث تستطيع الأكل منها. تجلس وبجانبك قضبان حمراء لاتكاء المسنين والمقعدين. يتدلى من السقف حبل أحمر للطوارئ. تجره فتدوي صفارة الإنذار ليخف القوم لمساعدتك. وإلى الجانب، طاولة لتنظيف الطفل الرضيع وتغيير حفاضته. وهناك براميل قمامة مختلفة للأنواع المختلفة من المهملات. شعرت بأن كل ما أحتاجه هو سرير لأقضي ليلتي هناك. هذا هو المتبع في معظم الكنائس البريطانية.

والآن يؤسفني حقا أن أقول إن دورات المياه في مساجدنا البريطانية تعكس مستوى شعوبنا إلى الحد الذي أخذ يجعلني أفضل أن يبتل سروالي عندما أنزنق بدلا من الدخول فيها. لا تهمهم نظافتها وتجهيزاتها بالقدر الذي يولونه لعدم اتجاهها الى القبلة. وكل هذا رغم أن ديننا الحنيف يؤكد على النظافة أكثر من أي دين آخر.