المخاطرة المنهجية في أسواق المال

TT

أثار افتضاح أمر شركة «إم إف غلوبال» تساؤلا بداخلي هو: «كيف من الممكن لشركة سمسرة استغلال أموال عملائها في مقامرة ورهان خطير وتخسر المليارات؟». تثير قصة «إم إف غلوبال» قلق أي مستثمر كما سيتضح لك خلال السطور التالية. إن معرفة أن الأنشطة التي أدت إلى انهيار «إم إف غلوبال» قانونية لأمر مذهل. إن التفاصيل معقدة، لكن تتبعها إلى النهاية، وسترى أن كل مشكلات نظامنا من فساد سياسي ومبالغة في الاقتراض والتركيز على تحقيق الأرباح على المدى القصير على حساب الاستمرار والبقاء، ذات جذر وأساس واحد هو الخسة والدناءة. وتتضمن قصة «إم إف غلوبال» ستة عناصر أرى أنها مذهلة:

1- ما فعلته شركة «إم إف غلوبال» بأموال عملائها كان قانونيا (من الناحية الفنية) على الرغم من أنه يعد انتهاكا لروح القانون.

2 - مكنت الثغرات البريطانية الخاصة بالاقتراض شركات أميركية، مثل «ليمان براذرز» و«إم إف غلوبال» من رهن أصول العملاء وزيادة الاقتراض بضمانها.

3 - نتيجة نفوذ «إم إف غلوبال»، تحررت من بعض القيود الحكومية مما سمح لها باستخدام أموال العملاء قي شراء سندات حكومية تتضمن مخاطرة.

4 - عام 2010 اكتشف أحد أعضاء لجنة تجارة عقود السلع الآجلة أن هذا التحرر من القيود واللوائح المنظمة عرّض العملاء إلى الخطر، واقترح تغيير هذه القواعد واللوائح. مع ذلك نجح الرئيس التنفيذي لشركة «إم إف غلوبال»، جون كورزين، في منع ذلك من الحدوث. ولو حدث ذلك، لما تمكنت الشركة من المقامرة بأموال العملاء وخسارتها.

5 - لم يخسر أي من العملاء الكنديين للشركة أموالهم بفضل صرامة اللوائح لديهم.

6 - من الأمور التي لم يتم الانتباه إليها في هذا السياق هو عدم كفاءة وكالات التصنيف الائتماني، فلو لم تبق مستوى التصنيف الائتماني لكل من إسبانيا وإيطاليا عند «A»، لم تكن لتستطيع شركة «إم إف غلوبال» أن تقوم بهذه المقامرات الكارثية.

أولا دعني في البداية أشرح لك عملية رهن الأصول: عادة ما يحدث هذا عندما تحصل على قرض رهن عقاري من أجل شراء منزل، حيث يكون المنزل هو ضمان الدين. ويعتبر المنزل في هذه الحالة مرهونا للمصرف، حيث يحق للمقرض مصادرته في حال تخلفك عن السداد.

بالنسبة إلى المتداولين في البورصة، تحدث حالة الرهن عندما تستخدم شركة السمسرة التي يتعاملون معها ما يملكه العميل من أسهم كضمان للتداول أو الاقتراض. ولتبسيط هذا الأمر، يمكن القول إنه شراء أسهم من خلال اقتراض بتقديم ضمان على هيئة أسهم إلى طرف ثالث (سمسار) للحصول على قرض مقابل ذلك. مع ذلك تظل محتفظا بملكيتك للأسهم، لكن يمكن للسمسار أن يبيعها إذا لم تتمكن من السداد. وهذا هو أساس طلب زيادة الأموال الذي تطلب فيه شركة السمسرة من العميل إيداع أموال إضافية تحسبا لحدوث تقلبات والتصفية الإجبارية.

عودة إلى «إم إف غلوبال»: تخضع أي شركة سمسرة سلع لقانونين فيما يتعلق بالرهن. لطالما كانت شركات سمسرة الأسهم والسلع قادرة على استخدام أموال العملاء لشراء سندات خزانة أميركية قصيرة الأجل. وأشار ويليام كوهان، مؤلف «المال والنفوذ: كيف حكمت مؤسسة (غولدمان ساكس) العالم؟» و«منزل البطاقات»، التي تتضمن قصة انهيار «بير ستيرنز»، إلى القانون الذي ينص على السماح بشراء «سندات الخزانة الأميركية حيث تضمن الولايات المتحدة الأصل والعائدات، وسندات تصدرها أي دولة أو أي هيئة سياسية تابعة لها (سندات المجالس البلدية). ويعني هذا استثمارات آمنة سائلة تحظى بتصنيف ائتماني ممتاز».

وهنا تبدأ حكاية الانهيار التي استغرقت عامين من 2007 إلى 2009. ربما تتذكر أنه في عام 2004، طلبت أكبر خمسة مصارف من لجنة الأوراق المالية والبورصة التخلي عن قواعد صافي الرسملة لإعفائهم من وضع قيود على الاقتراض. ومن المفارقة أن يتم تسمية ذلك إعفاء «بير ستيرنز». كذلك طلبت شركة «إم إف غلوبال» من لجنة عقود السلع الآجلة إلغاء القوانين الخاصة بحسابات العملاء وصناديق التأمين. عام 2000 و2004 و2005، أجرت اللجنة تعديلات جذرية لقانون 25 - 1. سمحت هذه التعديلات لشركات السمسرة بالقيام باستثمارات تتضمن مخاطرة كبيرة بأموال العملاء. وأتذكر أن القانون الأصلي أتاح استخدام أموال العملاء في شراء سندات الخزانة الأميركية وسندات المجالس البلدية الاستثمارية، لكن بعد تعديله، باتت شركات سمسرة السلع قادرة على الانخراط في استثمارات توصف بأنها «سندات دولة ذات سيادة». كذلك سمحت تعديلات أخرى في القوانين لشركات سمسرة السلع ومنها «إم إف غلوبال» باستخدام «ودائع» العملاء داخليا كنوع من الخداع والتلاعب في الميزانية سمح لمؤسسة «ليمان براذرز» بإخفاء ديون بقيمة 100 مليار دولار بعيدا عن أعين المستثمرين. لذا مكّنت هذه التعديلات الشركات من الاقتراض بضمان أصول العملاء طالما أنها تستخدم لشراء «سندات حكومية استثمارية». المذهل أن السندات الحكومية ذات العائدات المرتفعة، مثل سندات الحكومة الإسبانية (AA)، والإيطالية (A)، كانت لا تزال تصنف كسندات استثمارية من قبل وكالات التصنيف الائتماني. وما قامت به شركة «إم إف غولبال» هو شراء هذه السندات التي تصدرها حكومات دول أوروبية تعاني من عبأ الديون، مما يعد مخاطرة بأموال العملاء. ودون أن تنتهك تعديلات القوانين، انتهكت شركة «إم إف غلوبال» روح القانون.

وبفضل القوانين التي تم تعديلها لتشمل «السندات الحكومية الاستثمارية»، تمكنت شركة «إم إف غلوبال» من التحايل على القوانين الأصلية، رغم أن السندات الحكومية التي تصدرها حكومات دول تصنيفها الائتماني (A)، لا ترقى إلى مستوى سندات الخزانة الأميركية.

بالطبع يثير هذا سؤال آخر هو: لو كانت وكالات التصنيف الائتماني قد قامت بمهمتها دون صفقات، وهي خفض التصنيف الائتماني لهذه السندات الحكومية الأوروبية، هل كانت شركة «إم إف غلوبال» ستتمكن من الاستيلاء على أموال عملائها؟ لا أظن، حيث كان سينخفض التصنيف الائتماني لرهانهم على سندات الحكومتين الإيطالية والإسبانية إلى أقل من «A» قبل عدة أشهر. ويذكرنا هذا بأن وكالات التصنيف الائتماني التي لا تتمتع بالكفاءة ما زالت جزءا من منظمة القوانين هنا. بقي جانبان دوليان لهذه الكارثة هما كندا وبريطانيا.

لم يخسر عملاء شركة «إم إف غلوبال» الذين يعيشون في كندا بعد انهيار الشركة، حيث لم تسمح القوانين الكندية باستخدام أموال العملاء في مقامرات. كذلك لا تتسامح قوانين التصويت وتشكيل جماعات ضغط هناك مع الفساد التشريعي المنتشر في الولايات المتحدة. لذا يتمتع المنظمون في كندا بقدر أكبر من الاستقلالية، ولا يتأثرون كثيرا بالضغط، على عكس الوضع في الولايات المتحدة. على الجانب الآخر، القوانين في بريطانيا أقل صرامة من القوانين الكندية فيما يتعلق باستخدام أموال العملاء في المقامرة، بل وأقل صرامة من القوانين الأميركية. وذكر كريستوفر إلياس لوكالة «رويترز» أن البريطانيين سمحوا لشركات السمسرة الأميركية بالتحايل على القوانين الأميركية. ولا يوجد حد في بريطانيا لحجم القرض الذي يمنح بضمان أسهم.

وكتب إلياس: «إن الأمر بسيط؛ فقد عقدت (إم إف غلوبال يو كي ليمتيد)، فرع الشركة الأم في بريطانيا، اتفاق سمسرة مع شركة سمسرة كبيرة مقرها الولايات المتحدة لتستفيد الأخيرة من القوانين غير الصارمة الخاصة باستخدام أموال العملاء في الاقتراض في المملكة المتحدة».

أخيرا، هناك أمر مربك آخر، هو اعتماد القطاع المصرفي الموازي، أو النظام البديل الذي لا يخضع للقوانين المنظمة للمجال، بشكل كبير على العقود الاشتقاقية والاقتراض خاصة الألاعيب المحاسبية والائتمانية، مثل استخدام أموال العملاء كضمان للقروض أو اتفاقات إعادة الشراء التي أدت إلى انهيار الشركة في النهاية. وقد كشف فشل الشركة جانبا كبيرا من المخاطرة المنهجية التي لم يتخلص منها القطاع المصرفي بعد. ربما كانت «إم إف غلوبال» أول شركة تستغل أموال عملائها في المقامرة والمراهنات وتخسرها، لكنها بالتأكيد لن تكون الأخيرة.

* خدمة «واشنطن بوست»