ثقافة العبودية أنتجت عبادة الشخصية

TT

لم تكد إيران تعلن عن تحقيقها الاكتفاء الذاتي من الصواريخ، حتى كشف حزب الله عن وضع سلاح صاروخي إضافي في الخدمة: صاروخ أرض/جو. ليس موجها ضد الطيران الإسرائيلي الذي يعربد في سماء لبنان. إنما هو موجه للمسافات القصيرة. فهو صالح للاستعمال عبر خطوط النار، في مجلس النواب.

لست ضد صواريخ حزب الله. فهي رادع للعدو الإسرائيلي. لكن منذ تحييد سلاح الحزب، بإنزال القوات الدولية على الحدود، فقد انكفأ الحزب المسلح إلى الداخل، مهددا ديمقراطية الطوائف الهشة، بديكتاتورية الطائفة الوحيدة المسلحة من أعلى طيّات عمامتها إلى أخمص عباءتها. وها هو الصاروخ الجديد يهدد سلامة النواب، حفظهم الله من كل مقذوف.

اكتفى العم نبيه بري بشطب العبارات النابية المتبادلة، من محضر الجلسة. كان من الأفضل أن يطلب من «ضبّاط» الأغلبية الحكومية الميقاتية «تشليح» زميلهم النائب المحترم من صَبَّاطه الصاروخي (الصَبَّاط هو الحذاء في العامية اللبنانية/السورية)، وإرساله مشيا إلى البيت حافيا.

بل كان على السيد حسن حزب الله أن يظهر على شاشته العريضة، ليشرح «لرعاياه» اللبنانيين الحكمة في عدم استخدامه الصاروخ السري الجديد ضدهم، أو في التعامل مع نوابهم، حرصا منه على السلم المدني تحت القبة البرلمانية.

لا ننسى أن استخدام الحذاء في المقاومة سابقة تقنية عراقية، منذ أن قذف الصحافي منتظر الزيدي بحذائه ضيفه الأميركي الزائر. الرئيس بوش (الهدف) اعتبر القذيفة التي تفاداها «سلاحا ديمقراطيا» يمكن استخدامه ضد رؤساء أميركا الذين يغزون رؤساء دول محبة للسلام، كصدّام والقذافي.

لكن رئيس الحكومة نوري المالكي حبس الزيدي حافيا تسعة شهور، اعتبرها مقتدى الصدر (ندّ حسن نصر الله) مدة غير كافية، لمعاقبة شاب عراقي لا يجيد التصويب نحو الهدف، فيما بلده يخوض حرب تحرير دامية. ومنذ خروجه من السجن، ما زال الزيدي يطالب الحكومة بـ«فردة» الحذاء الأخرى الضائعة.

والآن، لماذا تنحدر لغة الحوار في مجلس نواب بلد عربي يتكلم أكثر من لغة، وعلى مستوى من التعليم أوسع وأرقى من مستوى أي بلد عربي آخر؟ لماذا يباهي نائب لحزب ديني المفروض أن يتسلح، أيضا، بأخلاقية تربوية، أعلى من مستوى حذاءٍ يعتبره نائب الحزب والطائفة الذي يلبسه «أشرف» من زميل يخالفه في الرأي. والموقف. والسياسة؟!

أجيب بأن برلمانات العالم ليست مساجد. أو كنائس. أو مدارس، لتلقين حسن السلوك والأخلاق. حتى في برلمانات الدول العريقة، يتم تبادل اللكمات بالقبضات (ليس بالأحذية). وأذكر هنا أن البرلمان اللبناني شهد في السنين الخوالي نائبا يصفع رئيس الحكومة. ونائبا يلطم زميلا، غير أن النائب الجديد مالك الصبّاط الصاروخي هو نتاج ثقافة أخرى. ثقافة طائفة كبيرة باتت محكومة بثقافة الإكراه. والكراهية. والتلقين. ثقافة أحادية طائفية منغلقة. متعصبة، أكثر منها ثقافة دينية متسامحة.

بتحريض من إيران الشاه، ثم الخميني، تمكنت المرجعية الدينية الشيعية في لبنان، وحزبها الشمولي (حزب الله) من سحب الأجيال الشيعية الشابة، من البيئة السياسية المنفتحة على أحزاب مختلفة ليبرالية. يسارية. يمينية.

ثقافة العبودية الفكرية والطائفية أنتجت عبادة الشخصية. من يجرؤ اليوم أن يعارض هذا الشيخ المنتفخ الأوداج الذي يخرج من مخبئه بين يوم وآخر، ليرعد على الشاشة. ويزبد. يهدد. يناور. يتقدم. يتراجع، بلغة شعبوية خطابية، تستهوي بنبراتها. بعاميتها. بفصحاها، طائفة انغلق شبابها داخل قوقعة رهينة لعبادة الشخصية؟

وهكذا، باتت الطائفة المنغلقة. المسلحة. الأكبر عددا، مهددةً لأمن لبنان. لحريته السياسية والفكرية. باتت دولة شمولية ضمن دولة ديمقراطية. دولة لها جيشها. مواصلاتها. أجهزتها الأمنية. بل دولة لها حكومتها الميقاتية الخاضعة لإرادتها. ولها مصالح دولة ذات ارتباطات خارجية!

ثقافة العبودية الطائفية في سوريا ساهمت، في تشجيع وازدهار ثقافة العبودية الطائفية في لبنان. أربعون سنة من حكم العائلة والطائفة. أربعون سنة للأب كيم إيل سونغ، و11 سنة لحكم الابن كيم جونغ إيل. النظام ابتلع الدولة. الحزب القائد احتوى واخترق أحزاب الجبهة التقدمية (البلغارية). في سيركه الخشبي ينتظم أكثر من حزب اشتراكي. وثلاثة أحزاب شيوعية مختلفة. كلها مدربة على حبال الطاعة المطلقة.

ثقافة العبودية أنتجت أيضا عبادة الشخصية. النجاح المظهري في السياسة الخارجية أضفى على الكمساري (القائد) مسحة من «الألوهية القداسية» المختزنة في غياهب الطائفة. في أقبية التعذيب، يصرخ الجلادون بالمعذَّبين: «هذا إلهكم يجب أن تعبدوه»!

صار الأب «سيد الوطن» الذي لا سيّد له. صار له سدّ باسمه. بحيرة باسمه. مكتبة باسمه. نحتت تماثيل وأنصاب تخلّده في المدن. في الريف. رفعت صورة له في مجلس الشعب المفروض أن يكون البيت الحقيقي للشعب.

قتل الابن الأول نتيجة الرعونة اللاهية في قيادة السيارة، فغدا «شهيدا» مبشرا بالجنة! رسم الابن الثاني وليا للعهد. ورث. ترأس. فارتفعت صيحات الشبيحة والتظاهرات الإجبارية: «الأسد إلى الأبد». «منحبك». انفصل الأسد الأصغر عن الواقع. ظن أنه محصن ضد الانتفاضة.

عندما انفجرت الملايين الريفية الجائعة. العاطلة عن العمل، تم وصفها بأنها «جراثيم» يتوجب على حكيم العيون إبادتها، تماما كالقذافي الذي اعتبر الانتفاضة فئرانا وجرذانا يجب استئصالها.

في الحكم الشمولي الطويل، أنجبت الهيمنة الطائفية طبقة إدارية علوية. هيمنت على الدولة. في إلغاء السياسة، وتسخير الإعلام طبلا وبوقا للدعاية، نشأت شلل إدارية، يرعاها ويقدمها حزب يختار أهل الثقة. فهاجر العاطلون عن العمل مع أهل الكفاءة. هناك اليوم ثلاثة ملايين سوري منتشرون في عالم المنفى.

في تعطيل النقد. والمساءلة. والمحاسبة، بات الفساد مؤسسة مزدهرة. بات النظام السياسي دولة مافيوية. «سارق العلانية فيها يعاقب سارق السر». النخب العائلية والتجارية المحتكرة باتت طبقة أرستقراطية. طبقة برجوازية تعيش حياة مختلفة تماما. لها مجتمعها. فيلاتها. سهراتها. لذائذها. مزارعها. مهابط طائراتها. ومرابط خيولها وكلابها.

النظام لم يمارس الاضطهاد الديني. اضطهد النظام حرية التعبير. لم يسمح بنشوء زعامات سياسية مستقلة. ساق الابن الليبراليين والماركسيين التائبين إلى السجون. عندما خرج رياض الترك (85 سنة) من السجن في عام 2003، قال: «خلال سجني في فترة قيادة حافظ الأسد، لم أر الشمس إلا بعد عشر سنين من الاعتقال. وعندما خرجت. انتقلت مباشرةً إلى المستشفى». عندما وصف رياض الأسد الأب بأنه كان «ستالين سوريا»، أعاده الأسد الابن من المستشفى إلى السجن.

«العلمانية» العربية كفر ضخم رَوّجته حركات الإسلام السياسي والجهادي. الشخصية العربية تنطوي على ازدواجية لا انفصام فيها بين الهوية القومية والدين، حتى في ساحة اللاشعور، لدى أشد الليبراليين واليساريين انغلاقا.

النظام الطائفي الذي يدعي أنه «علماني»، يتحالف مع النظام الديني الثيوقراطي (حكم رجال الدين) في إيران، ومع حزب الشيعة الخميني في لبنان، وهو الذي سمح منذ عقود، وفي غباء منقطع النظير، للإسلام السلفي والإخواني بالازدهار في الخفاء. هذا الإسلام هو الذي خرج ضد النظام الذي سمح به، ليقاتله سلما وحربا، في الريف والمدن الصغيرة. بشار يراهن على إعادة المارد إلى القنينة، وهو يرى المارد نفسه ينطلق من قنينة الاقتراع المصرية بجائزة 65 في المائة.