أما من مغيث؟

TT

أشار المؤرخ والتر راسل ميد مؤخرا إلى أنه في أعقاب ثورة التسعينات التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، كان للروس قول مأثور يبدو أنه يصدق هذه الأيام. القول هو: «أسهل أن تحول حوض سمك إلى حساء سمك من أن تحول حساء سمك إلى حوض سمك». هناك بالتأكيد الكثير من أحواض السمك التي تتحول إلى حساء سمك من أوروبا إلى الشرق الأوسط وربما قريبا في روسيا وآسيا. مع ذلك، ستمثل استعادة الاستقرار في تلك المجتمعات تحديا كبيرا في الوقت الراهن. نحن إزاء حدث من الأحداث العالمية المهمة لا يقل في حجمه عن الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة، باستثناء أنه ليس حربا هذه المرة، حيث كانت المواجهة في كل هذه الدول من الداخل ودون سابق إنذار. ترى ما السبب؟

أعتقد أن الدافع الأساسي هو العولمة وتكنولوجيا المعلومات، حيث مثل كلاهما حجر الزاوية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي أدى إلى ديمقراطية في الكثير من المجالات لا يمكن للدول أو الشركات الضعيفة أن تتصدى لها. لقد رأينا الديمقراطية في المعلومات، حيث يستطيع أي شخص أن يصبح ناشرا. كذلك رأيناها في الحرب، حيث يستطيع أي فرد أن يحصل على قوة عظمى، ويكفي بتنظيم القاعدة مثلا في هذا السياق.. وهناك ديمقراطية الابتكار، حيث يمكن لأي مبتدئ يستخدم البرامج المجانية والإنترنت تحدي شركات عالمية عملاقة.

وأخيرا لقد رأينا ما يصفه مارك ميكلبي، عقيد البحرية الأميركية المتقاعد والمستشار السابق لرئيس هيئة الأركان المشتركة بـ«ديمقراطية التوقعات» والتوقع بقدرة كل الأفراد على المشاركة في تشكيل مهنتهم وجنسيتهم ومستقبلهم دون قيود.

لقد فوجئت بمدى شبه ملاحظات الروسيين عن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين، الذي أعاد تنصيب نفسه رئيسا، بالملاحظات التي سمعتها في مصر عن الرئيس السابق حسني مبارك، الذي ظل ينصب نفسه رئيسا.

وأخبرني الكاتب المصري علاء الأسواني أن المصريين كانوا يمقتون فكرة تسليم مبارك السلطة لابنه جمال وكأن المصريين مثل «الغنم» التي يتم توريثها من قائد إلى ابنه. وجاء في مقال نشر يوم الأحد الماضي في صحيفة «نيويورك تايمز» قول المدون الروسي المعتقل ألكسي نافالني: «نحن لسنا أغناما أو عبيدا، فلدينا أصوات والقوة التي تمكننا من الاحتفاظ بها». ويقول دوف سيدمان، الرئيس التنفيذي لـ«إل آر إن» ومؤلف كتاب «كيف؟»: «لقد ولت أيام الدول أو الشركات الكبرى، فقد حل محل النظام القديم القائم على السيطرة وتبني سياسة العصا والجزرة لإجبار الناس على القيام بما لا يريدون، نظام قائم على التعاون والتواصل واستخلاص القوة من الناس».

ويضيف سيدمان: «لم يعد قادة الدول أو رؤساء الشركات قادرين على فرض إرادتهم، فلا بد أن تتبنى لغة الحوار التي تربطك بعمق مع مواطنيك أو عملائك أو موظفيك».

كانت شركة «نت فليكس» تستخدم لغة آمرة بشأن زيادة الأسعار مع عملائها، الذين سرعان ما نظموا أنفسهم وانسحب 800 ألف شخص، مما أدى إلى انخفاض سعر السهم. وكان هذا ما فعله «بنك أوف أميركا» عندما فرض رسوما قدرها 5 دولارات على البطاقات الائتمانية، وما كان من العملاء سوى إجبار المصرف العالمي على التراجع عن هذا التصرف والاعتذار عنه. اعتقد بوتين أن بإمكانه السيطرة على شعبه وفرض ما يريد، لكنه الآن هو الذي يضطر إلى اللجوء للحوار لتبرير بقائه في السلطة. ومنحت شركة «كوكاكولا» شكلا جديدا لعلب المشروبات الغازية التي تقدمها، حيث جعلتها باللون الأبيض بمناسبة موسم الأعياد، لكن أجبرها اعتراض المستهلكين على تغيير شكل العلبة لتصبح ذات لون أحمر بدلا من الأبيض خلال أسبوع واحد. وتخلت شركة «غاب» العام الماضي عن شعارها الجديد بعد أسبوع من تعبير العملاء عن عدم رضاهم عنه على الإنترنت.

سوف يخبرك كثير من الرؤساء التنفيذيين أن هذا التغيير كان مفاجئا لهم وأنهم وجدوا أنه من الصعب التكيف مع علاقات القوى الجديدة مع العملاء والموظفين.

يقول سيدمان: «مع تبدل معادلة القوة لصالح الأفراد، يجب أن تتبدل القيادة معها أيضا، حيث ينبغي أن تتحول من تبني النموذج القائم على الاستبداد أو الدافع الشخصي، الذي يتضمن سياسة الترغيب والترهيب من أجل استخلاص الفعل والولاء من الناس، إلى قيادة تكون مصدر إلهام يحث على الالتزام والابتكار والأمل». دور القائد الآن هو استغلال قدرات الناس على الوجه الأمثل، ثم مزجها برؤية آتية من أعلى. هل تسمعني يا بوتين؟ هناك حاجة ماسة لهذا النوع من القيادة الآن، حيث يوضح سيدمان قائلا: «يتحرر الناس من الظلم أو أي نظام يعوق طريقهم، لكن دون إرساء للقيم وبناء أطر مؤسسية تقودهم إلى حرية تأسيس مسارهم المهني أو عمل خاص أو حياة ذات معنى». يمكن للمرء أن يرى هذه الفكرة متجسدة بوضوح في مصر، حيث تمتعت الحركات المطالبة بالديمقراطية بالقوة اللازمة لخلع مبارك، لكنها حاليا إزاء عملية طويلة مرهقة لبناء مؤسسات جديدة وصياغة عقد اجتماعي جديد من قبل تحالف ديمقراطي يضم الإخوان المسلمين والليبراليين من المسيحيين والمسلمين والجيش والسلفيين. إن استعادة كل هذا الكم من السمك ليسبح معا في حوض سمك واحد ليس بالمهمة السهلة، فهي مهمة تتطلب قائدا شجاعا عظيما. أما من مغيث؟

* خدمة «نيويورك تايمز»