«المحروسة» لم تعد «محروسة»

TT

ليس هناك أصل تاريخي قاطع حول السبب وراء إطلاق اسم «المحروسة» على مصر. فهناك من يقول إن السبب وضعها الجغرافي القديم كواحة خضراء كبيرة وسط بحور من رمال الصحراء الصعبة التي تؤمن المناطق المؤهولة قديما فيها في الشريط الأخضر. وهناك من يقول إن أصلها يعود إلى عصر الفاطميين وبناء القاهرة بأسوارها المحمية وقتها ثم امتد التعبير ليشمل كل مصر.

عموما، فإن المصريين المعروفين بحبهم لبلدهم يحبون مصطلح «المحروسة»، وهذا ما ظهر في كثير من الأعمال الأدبية، وفي الحقيقة، فإنها في كثير من الفترات التاريخية تعرضت إلى أزمات وعواصف واحتلال، وإن كانت ظلت محافظة على حدودها التاريخية المعروفة منذ تدوين التاريخ حتى اليوم، باستثناء الفترة القصيرة زمنيا، بمعيار التاريخ، التي فقدت فيها أراضيها في سيناء بعد هزيمة 1967 ثم استردتها باتفاق السلام الذي كان إحدى ثمار حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

وفي هذه الأيام، يبدو أن «المحروسة» دخلت فترة اهتزاز لا تبدو فيها أنها «محروسة» بأي شكل من الأشكال.. صحيح أنه لا يوجد احتلال أو تهديد خارجي صريح، لكن الخلاف الداخلي الذي يعصف بالوضع الداخلي سياسيا واقتصاديا نتيجة حالة الاستقطاب الشديد بين القوى السياسية واللاعبين الرئيسيين على الساحة منذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني) من قوى سياسية ومجلس عسكري حاكم، يجعل الأخطار شديدة، وفي أحيان كثيرة يبدو الأمر بمثابة ألغاز بالنسبة إلى المتابع من الخارج، أو فيه قدر من العبثية والطفولية السياسية مثلما حدث في الشرارة التي أشعلت الموقف أو الأزمة الحالية التي تهدد بحريق القاهرة الثاني.

فحسب الروايات من مختلف الأطراف، بدأت الشرارة بكرة كان يلعب بها أحد المعتصمين أمام مجلس الوزراء دخلت خطأ مبنى المجلس أو مبنى مجلس الشعب المجاور، وحاول الدخول لاستردادها، فتعرض إلى عنف بدني، خرج بعده إلى زملائه، فاشتعل الموقف وانقلب الشارع إلى ساحة معركة كانت مستمرة حتى يوم أمس وسقط فيها 13 قتيلا ومئات المصابين، واحترق مبنى الجمعية العلمية بما يحويه من وثائق تحوي جزءا مهما من الذاكرة التاريخية لمصر، وتحدث مسؤول عسكري أمس عن مخطط لحرق مبنى مجلس الشعب.. ولا يزال الصراع دائرا والأطراف السياسية حائرة في سبل التهدئة.

ألغاز فعلا.. ويبدو أن هذا ليس جديدا في التاريخ المصري؛ فنحن لا نعرف حتى اليوم من هو المسؤول عن حريق القاهرة الأول في 26 يناير 1952 الذي التهم نحو 700 مبنى، والذي يعد أحد أكبر الألغاز في تاريخ مصر الحديث، كما يبدو أن هناك علاقة بين الحرائق والتاريخ، فمبنى الأوبرا المصرية الأصلي بكل ما يحويه من تاريخ، احترق في أكتوبر 1971 قبل أن يتم عامه المائة، وقيل وقتها ماس كهربائي. وكثير مما حدث بعد 25 يناير لا يزال لغزا مثل الحرائق التي أشعلت أقسام الشرطة، والسجون التي فتحت، والصدامات التي أدت إلى وقوع عشرات القتلى، والطرف الثالث الذي يتحدث عنه الجميع ولا يعرفه أحد، في حين أنه لو كان هناك صحافيون استقصائيون لعرفوه من خلال تحقيقات استقصائية كما فعلت مثلا «واشنطن بوست» في قضية «ووترغيت» أو «نيويورك تايمز» الأميركية مثلا في قضية سجن أبو غريب، أو التحقيق الذي نشرته أول من أمس عن القتلى المدنيين في هجمات الناتو في ليبيا.

سياسيا تحتاج مصر إلى تنفيس هذا الاحتقان، والكثير من الحكمة لمنع حدوث شرخ في علاقة الناس بالجيش، والعمل على منع سيناريو الحريق الثاني للقاهرة الذي لن يستفيد منه أحد، وهو ما يحتاج إلى مهنية عالية من سياسيين يستطيعون الارتفاع إلى مستوى اللحظة والتضحية حتى بالشعبية للبحث عن الوفاق الوطني كما حدث في تونس، والتركيز على اجتياز المرحلة الانتقالية بأسرع وقت من خلال صندوق الانتخاب. وقد يقول البعض إن صندوق الانتخاب لم ينصف الثوار، وهذا صحيح. والرد هو أنه ليس هناك وسيلة أخرى شرعية للحصول على الشرعية، فالمجتمع أمامكم والصندوق وراءكم!