إيران ووهم «الإمبراطورية»!

TT

عاملان يضعان حلم إيران بتشييد إمبراطورية في خانة «الوهم»، ويكبحان في نهاية المطاف هذا المشروع، الذي رصدت له الحكومة الإيرانية مبالغ ضخمة تزيد على «120 مليار دولار» يتم تعزيزها سنويا بمبالغ كبيرة من واردات النفط الإيراني الضخمة، علما بأن ميزانية إيران تبلغ حسب الخبير الاقتصادي الدكتور خالد الشمري للعام المقبل 2012 (165 مليار دولار). وأصبح الشعار الأساسي في إيران بعد الثورة الإيرانية عام 1979 «توظيف الثروة لتصدير الثورة»، أما العاملان الكابحان لتنفيذ هذا المشروع وتحقيق الحلم الإيراني بتشييد «الإمبراطورية»، فيمكن إجمالهما بالآتي:

الأول: انتهاء عصر الإمبراطوريات.

قيل الكثير عن إمبراطوريات القرن العشرين، وتوقع الكثيرون أن تفضي الحرب الأولى إلى ظهور إمبراطوريات تقف بقوة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، إلا أن تلك القراءات انكفأت على أصحابها، وقبل أن تتبلور ملامح قوى تتشكل منها الإمبراطوريات الجديدة، اندلعت الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929، ولم تتعاف البشرية من تلك الأزمة، حتى دخل العالم في أتون الحرب الثانية، التي فتحت الأبواب على ظهور إمبراطوريتين شرقية (الاتحاد السوفياتي) وغربية (الولايات المتحدة)، وهما أول إمبراطوريات في العالم تتصارع بحرب باردة، ولم تغز واحدة أراضي الأخرى، إدراكا من القائمين على القرار، بأن الإمبراطوريات في عصر الصناعة وتطور الأسلحة، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة، لا يمكن تشييدها بذات الطرق الرومانية والعثمانية وغيرها من الإمبراطوريات القديمة، لهذا تم اختيار عنوان «الحرب الباردة» منذ بداية الصراع الذي نشب منذ ستينات القرن العشرين.

لا شك أن اختيار هذه الاستراتيجية لم يأت من فراغ، وإنما استند إلى دراسة موازين القوى، واعتماد «الفذلكة» السياسية في رسم الخطوات المطلوبة لهزيمة الخصم، التي انتهت إلى تفكك الاتحاد السوفياتي في أولى المراحل عام 1989، ومن ثم إعلان الانهيار عام 1991، إلا أن السؤال المطروح الآن: هل مهد ذلك لظهور إمبراطورية متفردة وحيدة في العالم، هي الإمبراطورية الأميركية؟

لذلك يميل الكثير من المفكرين حاليا إلى ظهور الإمبراطوريات الاقتصادية، باعتبارها أكثر فاعلية واستمرارا من الإمبراطوريات ذات الأهداف العقائدية والعسكرية، وفي تحليل علمي دقيق لهذا الأمر يقول المفكر أولريش شيفر مؤلف كتاب «انهيار الرأسمالية»: «إن مجتمعنا الذي ينطوي على نوافذ يستطيع البعض المروق من خلالها نحو الأعلى، لا تزال فيه نوافذ يسقط منها الكثيرون نحو الهاوية، وأعتقد أن هذا الكلام ينطوي على حكمة لا بد لأصحاب الطموحات الإمبراطورية من التوقف عندها».

الثاني: استحالة المزاوجة بين نظريتين.

لا يخفى على أحد أن الإيرانيين يعملون على استخلاص تجارب الإمبراطوريات عبر التاريخ، ويرون فشل إمبراطورية التتار لافتقارها إلى فكر أو عقيدة وثقافة، واعتمادها على القوة المسلحة، وهذه القوة ربما تصمد لفترة قد تطول أو تقصر، لكنها في نهاية المطاف، لا بد أن يكون مصيرها الانهيار، كما حصل للتتار الذين اجتاحوا البشرية. وحتى نابليون الذي ارتدى عباءة الثقافة والتثقيف، فإنه لم يكن قادرا على التوغل بعيدا في المجتمع الشرقي وتحديدا الإسلامي، فانهارت إمبراطوريته رغم جلبه لأول مطبعة إلى مصر. أما مشروع الإمبراطورية الإيرانية، فإنه يحاول المزاوجة بين هذا وذاك، فقد شرع الإيرانيون في بناء قوة عسكرية نووية في وقت مبكر منذ بداية السبعينات، أي قبل ثورة آية الله الإمام الخميني عام 1979، ولم يطرأ أي تغيير على البرنامج الذي تأسس في زمن الشاه، كما أن الثورة التي اجتثت الشاه لم تمس البرنامج النووي، لأنه مرتبط بمشروع قومي إيراني، يتفق عليه غالبية الإيرانيين، وإن اختلفوا سياسيا ومرحليا، وعندما قصفت إسرائيل المفاعل النووي العراقي في مطلع يونيو (حزيران) عام 1981، كان البرنامج النووي الإيراني يسير على قدم وساق ولم تتعرض لقصفه إسرائيل، كما أن الإيرانيين لم يخفوا مشروعهم الرامي إلى «تشييع العالم الإسلامي»، وبذلك فإنهم يعملون على المزاوجة بين العقيدة والقوة العسكرية.

علينا أن نتوقف بعمق عند هذه القضية، ونسأل: هل الظروف التي كانت سائدة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي تتسق والظروف الحالية؟ جميع المؤشرات تؤكد أن الإيرانيين يتصرفون وكأنهم في ذلك الزمن، وجميع الحقائق تجزم بأنهم واهمون، إذ يستحيل المزاوجة بين نظريتي الإمبراطورية التي تعتمد على الفكر والعقيدة والقدرات الاقتصادية والعسكرية، ويمكن توضيح ذلك بالآتي: فقد برزت كوابح كثيرة تتصدى للبرنامج الإيراني العقائدي، لا أريد الدخول في تفاصيلها لأنها معروفة للجميع، وبعد أن ساد السكوت على هذا المشروع لعقود، تتكفل الآن دول ومؤسسات في التصدي له بصورة مباشرة وبدون مواربة أو مجاملة، كما أن سلوكيات الحكم في إيران، التي توافقت مع المشروع الأميركي في العراق ودعمته بقوة، فقد ساهمت في وضع علامات استفهام خطيرة وكبيرة، مما دفع بالكثيرين إلى إعادة تقييم أهداف اللقمة التي يمضغونها قبل ابتلاعها. أما تعويل إيران على برنامجها النووي، لفرض مشروعها بالقوة على دول المنطقة، فمن الواضح أن المجتمع الدولي أخذ في التصدي لهذا المشروع، مما يؤثر بقوة على مشروع إمبراطورية إيران المرسومة منذ عقود، وبذلك تدخل عملية المزاوجة بين «العقيدة والقوة» غرفة الإنعاش، خاصة إذا ما تواصلت الجهود الرادعة لها، من خلال فضح حقيقة المشروع وردع البرنامج النووي دوليا.

والسؤال الذي يتم طرحه بقوة، يقول: هل تنجح إيران في مشروعها، الذي تقتطع لأجله لقمة العيش من أفواه الإيرانيين الجائعين، في سبيل تشييد «إمبراطورية» لا تخرج عن دائرة الوهم؟ فإذا فشلت إيران في مشروعها بعد انهيار جميع الإمبراطوريات القديمة، فما فائدة تجويع الشعب الإيراني وصرف المليارات على إمبراطورية لن تحقق أهدافها؟ وهنا أنقل شهادة عن زمن الإمبراطوريات القديمة والجديدة، إذ يقول واحد من المفكرين الكبار في العصر الحديث، هو هيرفريد مونكلر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هومبولدت في برلين، وعضو أكاديمية العلوم في ولاية براندنبورغ، إن الإمبراطوريات ظاهرة عفا التاريخ عليها، إذ تأتي في ظروف ومعطيات عالمية تختلف عما كان قديما (كتاب «الإمبراطوريات» الصادر عام 2005).

إن أنظمة الحكم الناجحة، تلك التي تتعامل بديناميكية مع المتغيرات الدولية، وخلاف ذلك فإنها تزج بشعوبها في مهالك متعددة ومخاطر كثيرة. كما أن الإمبراطوريات الحقيقية، تلك التي تنهض بتنمية بلادها داخل الحدود لا خارجها.

* كاتب عراقي