ثورة.. «نص سوى»

TT

إذا كانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كوندوليزا رايس، أطلت على العالم بفكرة غريبة وروجت لها وأطلقت عليها اسم «الفوضى الخلاقة»، فإننا اليوم نتابع مشهدا سياسيا موتورا وسيئا في مصر، ممكن أن يطلق عليه اسم واحد وهو«الفوضى الهمجية».

شاهد الصبية وهم يتظاهرون ويرمون مبنى رئاسة مجلس الوزراء بالحجارة وكرات اللهب المشتعلة طوال الليل، ثم يعتدون على معهد البحث العلمي الذي يضم آثارا أدبية وعلمية وتاريخية لا تقدر بأي ثمن.. كل هذه المشاهد لا يمكن أن تكون هي نفسها للأشخاص «الثوريين المثاليين» الذين أطلقوا ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في ميدان التحرير وضربوا مثالا استثنائيا أمام العالم في كيفية إخراج الثورة الشابة بشكل حضاري جدا.

وكذلك الأمر أيضا بالنسبة لأفراد الجيش الذي اشتبك بعنف شديد جدا مع الناس لم يكن هو نفسه «الجيش المثالي» الذي حمى الثورة وأبناءها ومال وانحاز لصالح الشعب على حساب النظام. فهو اليوم أشد بطشا وشراسة، والأحداث تلو الأحداث تظهر هذا الجانب منه مع سقوط الضحايا بالعشرات.

مصر الآن تتجاذبها أطراف مختلفة في اتجاهات مختلفة؛ فهناك المجلس العسكري الذي يمثل اليوم «الفرعونية السياسية» بشكلها الهرمي النمطي الكلاسيكي، سلطة عليا لا تقبل القسمة، تأمر وتنهى بحسب أعرافها المتوارثة، ثوار شبان دفعوا الثمن وحدهم وجازفوا بكل شيء حتى تصل البلاد إلى ثورة حقيقية يتم فيها التغيير من الجذور وليس فقط بشكل شكلي ورمزي يتمثل في رحيل الحاكم فحسب، ويضاف إلى كل ذلك الإحساس الذي أصاب هذا الفصيل بالمرارة والغدر والحزن حينما أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة الهزيمة الساحقة لهم لصالح أحزاب دينية لم يكن لها أي دور حقيقي في صناعة الثورة، ولكنها تجني نتائج الثورة «عالجاهز» دون تعب بشكل يعتبرونه غير عادل أبدا.

وطبعا هناك الأحزاب الدينية السياسية التي لا تمانع أن «يطحن» الثوار والجيش بعضهما البعض حتى ينهكهما التعب والإعياء والإجهاد، ويكون الأمر لهم بحكم نتائج الصناديق الديمقراطية ورغبة الشعب فيمن يمثلهم.

وطبعا هناك دول ومؤسسات تحرك الإعلام وتدفق الأموال وتساند أطرافا لإبقاء الوضع في حالة الفوضى الهمجية، وذلك «لإضعاف» البلد بشكل أكبر.

مصر هي اليوم نتاج ثورة «نص سوى»، لم تختمر وتستوِ بالقدر الكافي، فرحل النظام رمزيا بتنحي رئيسه وحل حزبه والقبض على رموزه لإرضاء الشعب، ولكن بقي في النظام ثلاثة من أهم مؤسساته الفعالة والمؤثرة وهي المؤسسة العسكرية ومؤسسة القضاء والعدل والجهاز البيروقراطي للدولة، ولكن أيضا فقد النظام وبشكل سريع ومذهل المنظومة الأمنية الكبيرة والمعقدة من جهاز وزارة الداخلية وأمن الدولة، الذي لا يزال «ذوبانه» السريع لغزا غامضا لم تنكشف أسبابه حتى الآن.

الفوضى الهمجية لا يمكن أن تبقى مستمرة إلى ما لا نهاية، حتما سوف يكون لها سقف زمني وأسباب محددة متى ما تكونت وتوفرت ستتوقف، وأولها: من سيتعب أولا.. الجيش أم الثوار؟

ومن الحديث الحاصل الآن في مصر أن هناك تصنيفات جديدة بدأت في التداول، وهي أن الجيش غير المجلس العسكري الأعلى، وأن الشباب غير الثوار، وهي كلها خطوط هلامية غير واضحة التماس ورمادية التكوين، وبالتالي تبقى الحجة والتعريف عن هذه المسألة أمرا شخصيا يراه كل واحد بحسب هواه وميوله السياسية.

الأمر في مصر أصبح مثل صنبور المياه أحكم إغلاقه بمهارة فائقة حينما جرت الانتخابات البرلمانية، ولكن حينما حصلت المظاهرات الاحتجاجية ومنع رئيس الوزراء من الدخول إلى المبنى تحول المشهد الأمني إلى حالة من الفلتان والغليان لا علاقة له أبدا بنفس الذي كانت عليه مصر خلال الانتخابات التي حصلت قبلها بأيام معدودة.

إنها اليوم معركة الشرعية الأخيرة: الأمن أم الكرامة، وكل لها ثمن، وكل لها معيار، وكل لها مرجعية حتى تحسم تبقى مصر في حالة قلق واضطراب يقلق ويخيف أهلها ومحبيها، ولكنه حتما يسعد من يكرهها. الثورة في مصر لم «تستو» كاملة حتى الآن، ولكن السؤال الأهم: الثورة ستكون من نصيب من «ليأكلها»؟

[email protected]