يا بخت العزاب يا بختهم

TT

لا أظن أن هناك شعبا يتفنن في المأكولات أكثر من أهل الشام عموما، وأهل سوريا منهم على وجه الخصوص، وهم يتفننون في تحضيرها ويتلذذون أكثر وأكثر بأكلها.

وقادتني قدماي يوما لدخول أحد المطاعم من أجل (الدردشة) فقط مع صاحبه أكثر من رغبتي في الأكل، لأن ذلك الرجل كان إلى جانب خفة دمه، لديه حصيلة هائلة من الثقافة الأكلية - إن جاز التعبير - وبمعنى آخر أنه موسوعة متنقلة بجميع الأصناف ومسمياتها التي لا تخطر على البال.

رحب بي الرجل وقادني إلى إحدى الطاولات وتركني وحيدا، وما هي إلا عدة دقائق حتى عاد لي وبيده (أركيلة) معسل وضعها أمامي ومد لي (بربيشها) قائلا لي: «خذلك نفس وروّق وسلطن»، فاعتذرت منه على أساس أنني لا أتعاطاها، وتفاجأت به يحلف علي بالطلاق ثم يتبعه قائلا: «يا عيب الشوم.. كيف تأتي عندنا من دون أن (تتعفر)؟!.. عفر عليها يا رجل حتى تنجلي»، وحفاظا مني على زوجته عفرت مجاملا ومرغما.

وبحكم أنني مبتدئ وغشيم في هذا المجال، فكنت بين كل شفطة وشفطة أكحكح وأسعل، وهو يراقبني ويقهقه ويقول لي: «صحيح أنك بدوي (بكرتونة)»، ويا ليته اكتفى بذلك، لكنه زاد عليها وهو لا يزال يقهقه عندما قال لي: «إيش عرف الحمير بأكل الزنجبيل؟!».

وما إن سمعت ذلك حتى شعرت بشيء من الإهانة، لكنني بلعتها وقبلت نعته لي بذلك رغبة مني في كسب وده، وسرعان ما ربت على كتفي معتذرا لي بأنه يمزح، فقلت له: «أبدا خذ راحتك، فكلنا حمير الله».

فسألني: «ماذا تريد أن تأكل؟!».. قلت له: «اللي عندكم»، قال: «خير الله كثير، ما رأيك في (طباخ روحه)، أو (يهودي مسافر)، أو (حراق إصبعه)، أو (محشي الكسلانة)، أو (زنود الست)؟!»، فقطعت عليه استرساله قائلا: «إذا كان ولا بد فلا شك أن زنود الست هي التي تروق لي، خصوصا إذا كانت (الست ست) مش أي كلام»، فارتفعت وتيرة قهقهته أكثر لأن الخبيث فهم ما يعتمل في نفسي من بجاحة، فقام من مكانه وهو يضرب بيده على بطنه المنتفخ قائلا: «افرح يا كرشي جارتنا طابخة محشي».

وتوقعت أنه سوف يأتي بالمحشي، فوطنت نفسي على ذلك، لكنه بعد ربع ساعة تقريبا، وضع أمامي طبقا قائلا لي: «كل، هذا (منقوش) عملناه مخصوص لك».

وقبل أن أمد يدي عليه قال لي: «عندنا مثل يقول: (أحسن ما تاكل منقوش روح رقع جرابك المبخوش)»، فتبسمت قائلا له: «الحمد لله أنني ألبس الآن (صندل) وجراباتي المبخوشة تركتها بالبيت»، وأخذت أنقش بهذا المنقوش وهو ينقش معي حتى قضى وحده على ثلاثة أرباعه.

بعدها أتى لي (بزنود الست) لكي أحلي بها دون الست نفسها، فقلت بيني وبين نفسي: «يا ولد (إذا فاتك البارو أتمرغ بغبارو)»، وبعد أن شطبت عليها إلى آخر عرق ينبض بها، حمدت الله كثيرا طالبا منه الحساب، فحلف بالطلاق مرة ثانية أنه لن يأخذ مني قرشا واحدا.

شكرته على كرمه وودعته أسأله: «كيف حال (المدام)؟!»، فامتعض قائلا: «خليها على الله، آه يا بخت العزاب يا بختهم»، رددت عليه قائلا: «إن كلمتك الأخيرة هذه هي أصدق كلمة سمعتها اليوم، والله يجبر بخاطرنا».

[email protected]