الثورة والانتخابات و«الحواوشي»!

TT

أصبح مشهد الانتخابات معتادا في مصر، ويبدو أن تدريبا نفسيا قد صار لمعركة انتخابية طويلة المدى ممتدة حتى شهر مارس (آذار) المقبل؛ وبعد استراحة قصيرة سوف تأتي الموقعة الكبرى لاختيار رئيس مدني للبلاد. الأجواء خلال الجولة الثانية للانتخابات النيابية ظلت على سخونتها، وظل الترقب جاريا كما كان الحال خلال الجولة الأولى التي بطبيعتها تنقسم هي الأخرى إلى جولتين، واحدة افتتاحية يتم فيها حسم موقف الأحزاب من خلال القوائم، أما الثانية فهي انتخابات «الإعادة» للمقعد الفردي في جميع الدوائر تقريبا. طريق الانتخابات طويل إذن، وفي حقيقته القريبة سوف يتضمن ست جولات يعقبها ست أخرى في انتخابات مجلس الشورى.

هذا الأمر كله يجعل الشعب المصري في حالة انتخابية بامتياز، خاصة أنه في كل جولة توجد تسع محافظات مختلفة، وكل منها له مذاقه الخاص. صحيح أن النتائج السياسية تبدو مستقرة، حيث يحتل حزب الحرية والعدالة المقدمة، وهو الممثل للإخوان المسلمين، يتلوه حزب النور الذي يمثل مظلة يقبع تحتها أربعة أحزاب «سلفية»؛ ومن بعدهما تأتي أحزاب الوفد والكتلة المصرية، وهذه أيضا ثلاثة أحزاب، ومن بعد هؤلاء يوجد طابور طويل لأحزاب لم تحصل إلى على مقعد واحد أو ما هو أكثر قليلا.

القصة السياسية المصرية على الطريق الديمقراطي الانتخابي تمضي في طريقها، حيث بزغت قوة الإسلام السياسي حائزة على الأغلبية، وبينها تناغم النصر على الآخرين، وانقسام المختلفين على من تكون له الهيمنة في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة. ولكن هذا البزوغ لم يخسف تماما بالقوى المدنية المنقسمة على نفسها بين الوفد والكتلة ومن تبقى من الحزب الوطني الديمقراطي السابق وجماعة من المستقلين. وبين هؤلاء والجماعة الأولى يجري الشد والجذب عبر مسارح متعددة خارج الصندوق الانتخابي، حيث أجهزة الإعلام تعمل على مدار الساعة في منافسة حامية على من يأتي بأحسن القصص وأكثرها إثارة. ومع ذلك فإن هناك ما هو أكثر جدية مما هو مثير، حيث تبدو ظواهر مثل رشوة الناخبين، ساد الظن أنها ذهبت إلى غير رجعة، قد عادت مرة أخرى. ولكن ما هو أكثر خطورة فقد كان ما جاء على تجربة القضاء مشرفا على العملية الانتخابية من مآخذ، بدءا من حالة الإرهاق البادية؛ وحتى الشكوى من أن قضاة وهم بعيدون عن منصة القضاء، كانوا بشرا لهم أهواء وميول.

كل ذلك لا يزال محدودا في كل الأحوال، وبعضه يحتاج إلى تحقيق جدي، ولكن المسار الانتخابي لا يخفي مسارا سياسيا آخر تظهر فيه قوى الثورة معتصمة أمام مجلس الوزراء، رافعة ضرورة زوال حكومة الدكتور كمال الجنزوري، وانتهاء بحكم المجلس العسكري واختيار مجلس مدني آخر يقوم بالإدارة السياسية للبلاد. الحالة هنا تبدو مقبلة من مسرحية أو واحدة من أفلام غرائب الطبيعة، حيث يظل مئات في حالة من الغيبوبة السياسية، بينما الواقع يسير بالملايين أمام صناديق الانتخابات. وحتى رئيس مجلس الوزراء الذي حرمت وزارته من مقرها الرسمي وسط العاصمة، لم تجد مشكلة في إدارة شؤونها من مواقع أخرى حتى نزلت البرودة بشارع مجلس الشعب حيث يوجد مقر السلطة التشريعية في مواجهة السلطة التنفيذية. ولكن برودة الطقس السياسي والمناخي لم تمنع إثارة الصورة كلها بحدث «الحواوشي» الذي انفجر فجأة في سماء السياسة المصرية.

ولمن لا يعلم فإن رغيف «الحواوشي» هو نوع من الشطائر المصرية التي يفترض وجود اللحم فيها مع بعض من المنتجات الحريفة. ولكن الافتراض أمر، والحقيقة أمر آخر، فهذا النوع من الغذاء موجه أساسا للفقراء، بحيث تحتوي الشطيرة على كل بقايا اللحوم وبعد فرمها جيدا، فإنها تختلط بأنواع من التوابل التي أغلبها «شطة» حارقة، وبعد تسخينها فإنها تصير نوعا من القنابل الغذائية. الغرض من الطعم الحريف للغاية هو أن تنسى قصة اللحم الأصلية، وينتهي الأمر عادة بقدر هائل من السخونة والطاقة والدموع المنهمرة، ليس تأثرا بالموقف ولكن نتيجة له.

كانت علاقتي بالحواوشي قد قامت وانتهت فيما أذكر في عام 1974، ولكنني لم أتخيل أنها سوف تعود لتتصدر أحوال الحالة المصرية مع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. كانت الانتخابات تجري في مسيرتها؛ وتبدو قصة رئيس الوزراء مع مقره المحاصر تحت السيطرة، ولا يوجد فيها ما يثني عن التصريح بأخبار اقتصادية موجعة؛ وحتى تكوين مجلس استشاري جديد لكي يقف في عون المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يعد يثير الجدل الذي أثاره في أول الأمر؛ وفي الوقت الذي يجري فيه كل ذلك انفجرت قصة الحواوشي عندما مرت سيدة، قيل إنها منقبة، لكي تمنح المعتصمين أمام مقر مجلس الوزراء كما هائلا من هذه الشطائر المتميزة وسط برد قارس. لم يمض وقت طويل حتى بدأت حالات مرضية تأتي إلى مستشفى قصر العيني القريب، مشتبها في إصابتها بتسمم حاد نجم عنه حالات من الإسهال والقيء والآلام الحادة.

ولأنه لا يوجد نقص أبدا في نظريات المؤامرة فإن المشهد الأول فيها هو المبالغة في الواقعة، وتجسد ذلك في الإعلان عن وفاة الضحية الأولى في تاريخ الشطائر الحريفة، وبعدها ارتفع العدد إلى مائة شخص يشكلون تقريبا نصف القوة المتظاهرة دفاعا عن الثورة المستمرة. بعد ذلك يأتي المشهد التالي، وهو تخيل ما حدث ورده إلى أسبابه «المنطقية»، وهي كما قيل إنه قد تم دس السم في الشطائر التي يصعب فيها التمييز بين أنواع من التوابل والسموم غير المعروفة. وهو ما يقودنا فورا إلى المشهد الثالث، وهو صاحب المصلحة من دس هذه النوعية من السموم؛ ولما كان هناك كثير من الكارهين لاعتصام شارع مجلس الشعب فإن الدافع متوافر لأكثر من متهم. ولأسباب غير معروفة وجد أن صاحب المصلحة الأول في فض الاعتصام هو الدكتور كمال الجنزوري الذي من المرجح أنه لن يمتلك ناصية وزارته ما لم يمارس عمله من المقر الذي اشتاق إليه منذ عقد التسعينات من القرن الماضي. ومما عزز الشكوك أن رئيس الوزراء صرح ذات يوم قريب أنه توجد وسائل أخرى غير العنف لإخلاء المعتصمين من موقعهم العتيد. هنا اكتملت المؤامرة كاملة الأركان، فلا توجد وسائل أخرى مثل دس السم للمتظاهرين المعتصمين الذين يعطلون مسيرة الاستقرار والديمقراطية في البلاد.

لم يمض وقت طويل على أي حال حتى ثبت أن المؤامرة لا وجود لها، فالسيدة المزعومة كانت محجبة وليست منقبة، والتحليل الطبي أثبت أن كل ما في الأمر أن «الحواوشي» كان فاسدا، وهو ما يعني أن قدر «الشطة» كان فيه صغيرا. وبعد أن تلقى المرضى العلاج عادوا إلى بيوتهم أو إلى حيث استمروا في الاعتصام. ضع كل هذه المشاهد بعضها مع بعض وسوف تجد أن الثورة والانتخابات وشطائر «الحواوشي» ليست منقطعة الصلة!