في رحيل اليساري «الخائن»

TT

كثير هم أولئك الأشخاص الذين يلفتون انتباهك بسعة اطلاعهم، وحدة ذكائهم، ولكن القليل منهم من يستطيع أن يبعث إليك من سطور كتابته عوالم من القصص والشخوص والأفكار، ونبضا من حيوات العظماء والأشرار، وأن يتحدى لدى كل فرد كل ما يؤمن به دينيا واجتماعيا وسياسيا.

برحيل كريستوفر هيتشنز (62 عاما)، الكاتب المثير للجدل، يكون الوسط الثقافي الأميركي والأوروبي قد خسر واحدا من أكثر الشخصيات الجدلية. فصفحات مجلة الـ«فانتي فير «Vanity Fair الأميركية، أو «ذا نيشن The Nation«، أو «ذا أتلانتك «The Atlantic، أو «ذا نيو ستيتمان» «The New Stateman التي بدأ منها مسيرته الصحافية في 1973، وكتب لها آخر مقال في عددها الأخير، قد فقدت كلها كاتبا يصعب تعويضه.

في الوقت الذي تشتعل فيه ميادين القاهرة بالمواجهات ما بين الشباب والعسكر في صورة من التحدي العبثي، فإن في رحيل هيتشنز، الذي عاش الثلثين الأولين من حياته «ثوريا» ثم تحول إلى اليمين السياسي، مع احتفاظه بمواقفه المناوئة للدين والأخلاق المحافظة, يمثل معان كثيرة للجيل الذي يشتعل غضبا اليوم في شوارع المدن العربية، ويبحث عن خلاصه في مواجهة جنود بسطاء لا حول لهم ولا قوة إلا اتباع الأوامر بالمحافظة على مباني الدولة، ومؤسسات استقرارها. الحديث عن هيتشنز ضروري في وقت تجاهل اليسار الأوروبي والعربي موت شخصية كانت تعتبر حتى نهاية التسعينات أيقونة اليسار، ونموذج الكاتب المناصر للثورات والشعوب المظلومة من كردستان، ومرورا ببورما وتشيلي، وحتى القضية الفلسطينية التي اشترك في تأليف كتاب مع نجمها اللامع إدوارد سعيد تحت عنوان «لوم الضحية» (2001).

قبيل وفاته كتب هيتشنز مقالة بعنوان «ما الذي لا أراه في الثورة؟» جادل فيها بأن تسرع العالم الغربي - بصحافييه وسياسييه - إلى الاحتفاء بالانتفاضات الشعبية التي ضربت العالم العربي، ومحاولة تشبيهها بسقوط جدار برلين، و«الموجة الديمقراطية الثالثة» التي ضربت أوروبا الشرقية، هو احتفاء مبالغ فيه. يقول هيتشنز: «لقد طالب مبارك بأن ينظر له بوصفه (أبا)، ولكن وجد أنهم يفضلون أن يكونوا شعبا من (الأيتام). هذه بالفعل لغة جديدة، لغة المجتمع المدني التي هي مجهولة - تقريبا - في العالم العربي وغير متمكن منها. علاوة على ذلك، بينما قد يكون الجسم القديم موجعا في هذا المخاض، فإن عددا من القابلات قد حضرت للولادة، ولكن من الصعب جدا العثور على نبض الجنين» (فانتي - فير، أبريل/ نيسان 2011).

هذا الموقف المتشكك من نتائج «الربيع العربي» شديد الأهمية، لا سيما أنه يأتي من شخصية ثقافية كانت لأكثر من ثلاثة عقود أحد أهم الأصوات اليسارية - والثورية - التي يتم الاستشهاد بها، وتمرير طروحاتها في العالم العربي. لا شك أن مثقفي «اليسار الليبرالي» لم يعودوا يؤمنون بطروحات هيتشنز، لا سيما بعد أن لجأ إلى الطلاق من «اليسار الثقافي» في أميركا حين أيد غزو العراق في 2003.

خلال العقود الثلاثة الماضية كتب هيتشنز متحديا أفكارا وشخصيات فاعلة في الفضاء العام، فألف عن هنري كيسنجر، وتوماس جيفرسون، وتوماس بين، وجورج أورويل، والرئيس بيل كلينتون، ولم يسلم من نقده حتى الأم تيريزا التي نالت منه أعنف النقد، ولكن ما يجعل هيتشنز مهما في الطرح الفكري خلال العقد الأخير هي جهوده الرسالية في نقض طروحات اليسار الثقافي التي هيمنت على الخطاب الإعلامي في عواصم أوروبية وعربية. لقد فضح هيتشنز في كتاباته المواقف المتناقضة، والاستخدام النفعي للأخلاقيات والمبادئ من قبل مثقفين من زملائه تصدوا للشأن السياسي، فهاجموا الأنظمة السياسية «الديكتاتورية»، وانحازوا لقوى المعارضة والثورة، ولكن سكتوا في الوقت ذاته عن عورات المعارضة وتجاوزاتها الفكرية والسلوكية، بذريعة أن ذلك يخدم الأنظمة القمعية، وكانوا أغلب الوقت يرفضون الحديث عن الجانب الأناني والذرائعي لتلك الأحزاب والجماعات المؤدلجة المعارضة - من شيوعيين واشتراكيين وبعثيين وإسلاميين - بدعوى أن المهم هو الوقوف بوجه «القوة» التي تمثلها الأنظمة الحاكمة، سواء أكانت في الغرب أم الشرق.

قد تختلف أو تتفق مع هيتشنز، ولكن لا يسعك إنكار اللغة المتمكنة، والثقافة الموسوعية التي كانت تميز كتاباته، ولا الصداقات الشخصية التي جمعته بشخصيات مثل الروائي مارتين أيمز، وريتشارد داوكنز، وسلمان رشدي، وكنعان مكية، وحتى ممثل شهير كـ(شون بين). لقد كان هيتشنز صحافيا بريطانيا ثوريا ضاق ذرعا بوصول المحافظين بقيادة مارغريت ثاتشر إلى الحكم، فقرر الانتقال إلى أميركا، ولم يمض وقت قصير حتى كان أحد أبرز أصوات «اليسار الثقافي» إلى جوار ناعوم تشومسكي وجور فيدال وآخرين.

بيد أن الصداقة الأهم في تاريخ هيتشنز كانت بتعرفه إلى الناقد الأميركي/ الفلسطيني إدوارد سعيد أثناء مؤتمر في قبرص عام 1976، وقد أثرت تلك العلاقة باهتمامات هيتشنز حتى تعلق بالقضية الفلسطينية، وأصبح أكثر قربا إلى كثير من مثقفي المنطقة من الكتاب القوميين واليساريين الذين تحولوا خلال السبعينات إما إلى الأحزاب الإسلامية أو اختاروا أن يكونوا ليبراليين، ولكن على يسار المؤسسة السياسية. هذه العلاقة استمرت، وأثمرت الكثير من الكتب والمقالات، ولكن حين قرر هيتشنز الانحياز إلى الأغلبية الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) حدثت القطيعة، ومن ذلك الوقت أيد هيتشنز غزو أفغانستان والعراق اتساقا مع مواقفه المناوئة للديكتاتوريات العسكرية وتحرير الشعوب، ولكن خياره ذلك أدى إلى طرده من اليسار بحيث توقفت مقالاته في مجلة «ذا نيشن»، المحسوبة على اليسار الثقافي.

على الرغم من ذلك كان هيتشنز ينظر إلى إدوارد سعيد نظرة احتفائية، فقد حملت مذكراته «هيتش 22» (2010) فصلا بعنوان «إدوارد سعيد في النور والعتمة»، ضمنها انطباعات جميلة عن الأثر الثقافي والفكري الذي أثر به سعيد عليه، فكتب عن موسوعية سعيد في الأدب الإنجليزي، وذائقته النقدية النافذة في الموسيقى الكلاسيكية التي كان يجيد عزفها على آلة البيانو، ولكن هيتشنز يستدرك بأن سعيد كان سيغدو عظيما في الأدب والموسيقى لو لم يكن انخرط في القضية الفلسطينية، التي وفقا لهيتشنز ورطت سعيد في السياسة وأوحالها التي لم يكن يجيدها، لقد كان يرى العالم فقط «من خلال المسألة الفلسطينية». يقول هيتشنز: «لقد أسر لي مرة بأنه لم ينتقد الاتحاد السوفياتي في حياته لأنه: لم يصنع لي - أو لنا - أي سوء»، وفي موضوع آخر تحدث هيتشنز عن أن سعيد كان غاضبا حين كتب كنعان مكية في مجلة «ذا نيشن» عن ديكتاتورية نظام صدام حسين في العراق لأنه - أي سعيد - كان على خلاف مع المعارضة العراقية. يقول هيتشنز: «لقد بالغ في لعب دور السفير إذا ما سألتني، إذ لطالما كان يلبس بأناقة، ويحسن على الدوام الظهور بمظهر راق»، ولكن تلك المحاولات من قبل سعيد لأن يكون رمزا عالميا للقضية الفلسطينية اصطدمت أولا بكامب ديفيد، ومع أنه كان عضوا بالمجلس التأسيسي الفلسطيني، ومقربا من عرفات بحيث كتب عنه بروفايلا احتفائيا في مجلة «إنترفيوا» في الثمانينات، إلا أنه انفصل عن عملية السلام بعد أوسلو في 1993.

أهمية نموذج هيتشنز هي أنه يكشف عن الطريقة التي يفكر بها ويتحرك اليسار الليبرالي العربي. هذا اليسار الذي يبالغ في الاصطدام بالأنظمة، ويوفر المناخ - والحجة - للعصيان المدني كما حدث خلال هذا العام في أحداث «الربيع العربي»، ولكنه على الرغم من ذلك مؤدلج، ولا يملك مشروعا عمليا للانتقال السياسي؛ لأنه بالأساس ضد المؤسسات بوصفها تمثيلا للقوة، ولا يؤمن بالشروط الاقتصادية الواقعية؛ لأنه يرفض حرية التجارة ونمو القطاع الخاص، وفوق كل ذلك بعض شخوصه مسكونة بمشكلاتها الفردية، والصراع ما بين تطلعاتها والواقع الاجتماعي.

لقد ناضل إدوارد سعيد ضد أوسلو عرفات ولكن فازت بانتخاباتها حماس، وكتب كنعان عن نظام البعث الكثير فقط ليرثه حزب الدعوة والصدريون في العراق، وها هم دعاة «الربيع العربي» يملأون الساحات لكي يفوز بها الإخوان والسلفيون في تونس ومصر واليمن.

المبشرون بالـ«الربيع العربي» - وبعض منهم تراجع اليوم - كانوا أكثر جرأة وحماسة بادعاء دور أساسي لهم في إسقاط الأنظمة، ولكنهم هزموا عند أول اختبار في الانتخابات لأنهم لا يمثلون - بعد - هموم ومطالب الشعوب التي زعموا الانتفاضة والثورة من أجلها.