الطاقة الرخيصة إهدار للمال العام

TT

تعتبر المملكة العربية السعودية من أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم بإنتاج يقدر بتسعة ملايين برميل يوميا. ومنذ عقود والإيرادات التي تحصلها الحكومة من مبيعات النفط تشكل نسبة كبيرة جدا تتخطى الثمانين في المائة من إجمالي الإيرادات الحكومية وهذه نعمة كبيرة عندما تكون الأسعار مرتفعة جدا كما هي الحال خلال السنوات العشر الماضية حتى الآن ونقمة في أوقات تدني الأسعار كما كانت عليه عندما انخفضت إلى مستوى الثمانية دولارات للبرميل في عام 1998م. وإلى أن يتم إيجاد مصادر دخل أخرى يمكن لحكومتنا الاعتماد عليها لتمويل الخطط التنموية الطموحة، يجب علينا النظر عن قرب في المؤثرات والمتغيرات التي تجعل من سلعتنا الأهم أكثر كفاءة وفعالية في المشاركة في تمويل برامج التنمية الطموحة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين أطال الله في عمره والتي سيكون لها الأثر الإيجابي على رفاهية المواطن.

إن العوامل المؤثرة في كفاءة مشاركة النفط في زيادة الدخل القومي كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر حجم الإنتاج، الأسواق المستهدفة، تكلفة الإنتاج، استراتيجيات التسعير، الاستقرار السياسي في الدول المنتجة، كفاءة الطاقة البديلة والتوسع في استخداماتها، وأخيرا وليس آخرا حجم الاستهلاك المحلي. وأنا اليوم سألقي الضوء على أكثر هذه العوامل تهديدا لدخلنا القومي ألا وهو حجم الاستهلاك المحلي من النفط.

تنتج المملكة اليوم كما أشرت تسعة ملايين برميل من النفط وتستهلك داخليا مليونين وأربعمائة ألف برميل بمعدل استهلاك للفرد قدره 33 برميلا في السنة ويعتبر هذا الأعلى في العالم. كما أن الاستهلاك الداخلي للنفط خلال السنوات الخمس الماضية نما بمعدل قدره 4.8% في السنة مقارنة بمعدل عالمي قدره 1.6% لنفس الفترة ويعتبر ذلك الأعلى في العالم ويوضح حجم المشكلة بجلاء حيث من المتوقع أن يصل حجم الاستهلال الداخلي 50% من الإنتاج الإجمالي أو 5.5 مليون برميل في اليوم في عام 2028 أي بعد 16 سنة تقريبا وهذا أجل قصير جدا في حياة الأمم. المشكلة ليست في حجم الاستهلاك الداخلي الكبير ومعدل نموه المرتفع والتي بالتأكيد تؤثر سلبا على سلوك وصحة المجتمع بل تكمن المشكلة في المال المهدر جراء بيع هذا الإنتاج في السوق المحلي بأسعار مخفضة جدا تقدر بعشرة دولارات في المتوسط للبرميل في وقت يتم بيعه بسعر 80 دولارا للبرميل في السوق العالمية حيث يتم احتساب سعر برميل النفط لشركة الكهرباء بدولارين فقط وبـ4.2 دولار لشركات الأسمنت التي تحقق هامش ربح في المتوسط قدره 55% وبحدود 18 دولارا لوقود السيارات. إن الإيرادات السنوية التي تفقدها خزانة الدولة جراء بيع النفط محليا بهذه الأسعار تبلغ تقريبا 500 مليار ريال في العام وهذا يعادل تقريبا المصروفات الحكومية المقدرة في ميزانية العام الحالي 2011م ومن المتوقع أن تتضاعف لتصل إلى 1000 مليار ريال في العام بحلول عام 2028م ناهيك عن الآثار السلبية الأخرى على الصحة العامة وسلوك المجتمع وارتفاع تكاليف صيانة الطرق وارتفاع معدل حوادث السيارات جراء الإفراط في استهلاك الطاقة لرخص ثمنها.

إذن هناك خطر حقيقي في أفضل الحالات سيحد من نهج الحكومة التوسع في تمويل مشاريع التنمية الطموحة وفي أسوأ الحالات سيضع الدولة في موقف مالي صعب جدا في حال انخفاض أسعار النفط لما دون 75 دولارا للبرميل وهو السعر التقريبي لتحقيق ميزانية متوازنة وفي حالة انخفاض أسعار النفط عن 75 دولارا للبرميل فإن الحكومة ستلجأ لتمويل مصروفاتها إما من خلال السحب من مدخراتها الأجنبية لدى مؤسسة النقد العربي السعودي والتي وصلت إلى 520 مليار دولار أو اللجوء إلى الاقتراض بعد النجاح في تخفيض الدين خلال الأعوام الماضية من 110% من إجمالي الناتج المحلي إلى 10% تقريبا وفي حالة تدني الأسعار لما دون الـ50 دولارا للبرميل ولفترة طويلة لن أستغرب إذا بدأت الحكومة بفرض بعض الضرائب.

إذا ما هو الحل؟ الإعانات الذكية هي أكثر الحلول كفاءة Smart Subsidiaries ويقصد بها الإعانات الموجهة للمواطنين الذين هم بحاجة لها وهي شائعة الاستخدام عالميا. فلماذا يستفيد أكثر من سبعة ملايين أجنبي من الميزات التي تقدم للمواطن في دولة لا تفرض عليهم ضرائب وهم يدفعون ضرائب لحكوماتهم تصل في بعض الحالات إلى 50% من دخلهم، إن الطاقة الرخيصة هي التي تدفع بالكثير من العمالة وسائقي المنازل إلى شراء سياراتهم الخاصة وهي السبب الرئيسي خلف ازدحام الطرق والحوادث. إن الطاقة الرخيصة هي التي تجعل سيارات الأجرة تجوب الشوارع بدلا عن الوقوف وانتظار طلب خدماتهم. ولماذا يستفيد الأثرياء من أسعار الطاقة الرخيصة مثال البنزين أو الكهرباء والتي بالتأكيد لن تؤثر على ثرواتهم إذا ما تم شراؤها بالأسعار العالمية. ولماذا تربح شركات الأسمنت 55% في المتوسط جراء الحصول على طاقة رخيصة وفي العالم لا تفوق أرباحها 25% في المتوسط والأدلة كثيرة التي تؤكد عدم الاستثمار الأمثل للطاقة في بلدنا. إن الإعانات الشاملة التي لا توجه لطبقة معينة هي تبذير للمال العام ولثروات الأجيال. ولنستدل بالضرائب في الدول المتقدمة فهي ترتبط بالدخل وترتفع كلما زاد دخل الفرد لذا فالطبقات الأقل دخلا تدفع ضرائب أقل مما يحقق لها الحد الأدنى من الدخل الذي يغطي مصاريف الحياة الأساسية.

إذن الحل هو بيع الطاقة محليا بالأسعار العالمية من خلال تنفيذ برنامج مدته 10 سنوات يتم رفع الأسعار بنسبة 20% كل سنتين لكي يستوعب الاقتصاد وقطاعات الأعمال المختلفة هذه الزيادة في التكاليف ويتم رفع كفاءة عناصر التكاليف الأخرى إذا ما أراد قطاع الأعمال الحفاظ على هامش الأرباح التاريخي المحقق مع الاستعداد لقبول معدلات ربح أقل من المعدلات التي اعتادوا عليها. في المقابل العمل على بناء قاعدة بيانات دقيقة ممكن الاعتماد عليها لتحديد دخل الفرد السعودي وبالتالي تقسيمهم إلى شرائح بهدف تحديد الشرائح الأقل دخلا وبالتالي تقديم المعونات لهم على شكل مبالغ مالية مقطوعة تضاف إلى رواتبهم بهدف إلغاء أثر الزيادة في أسعار الطاقة. إن مثل هذا الإجراء لن يلغي أثر الزيادة في أسعار الطاقة على المواطن ذي الدخل المحدود فقط بل يجعله أكثر وعيا في إنفاق دخله ومن المؤكد أن استهلاكه للطاقة مرتفعة الثمن سيكون أقل وبالتالي يتم حل مشكلات أخرى مثل الازدحام، تلوث البيئة، صيانة الطرق إلى آخره.

ولكي يقف مجتمعنا مع الحكومة في مثل هذا الإجراء وخصوصا ذوي الدخل المرتفع ورجال الأعمال ويلتزموا ويدعموا التنفيذ. لا بد أن تكون لدى الحكومة برامج واضحة وقابلة للتطبيق وبتكاليف منطقية تهدف إلى استخدام الدخل الإضافي الناتج عن رفع أسعار الطاقة والمقدر كما ذكرت سابقا بحدود الـ500 مليار ريال في السنة في تطوير البنية التحتية من أهمها الطرق والمواصلات ووسائل النقل العام والتعليم والصحة. ويتم التعاقد مع شركات وطنية لتنفيذ تلك المشاريع مما يؤدي بالتالي إلى زيادة حجم الأنشطة مقابل انخفاض هامش الأرباح والنتيجة النهائية تحقيق صافي أرباح أفضل وهو الأهم.

أنا متأكد من أن ارتفاع الاستهلاك المحلي للنفط يشكل تحديا للمسؤولين في الحكومة السعودية وسبق أن أشار معالي وزير النفط والثروة المعدنية إلى ذلك في أكثر من محفل وشرعت الحكومة باتخاذ إجراءات لتطوير بدائل للطاقة منها إطلاق مدينة الملك عبد الله بن عبد العزيز للطاقة الذرية ولكن هذا غير كاف. لذا أقترح تطوير برنامج الإعانات الذكية وتنفيذه بعد استكمال الإجراءات اللازمة لجعل هذا البرنامج ناجحا.

* العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لشركة «جدوى» للاستثمار