لا يجوز استغراب هذا المد «الإسلاموي» بعد فشل الظاهرة القومية!!

TT

ليس في محله ولا في مكانه كل هذا الاستغراب والاستهجان لكل هذه الإنجازات الانتخابية التي حققها «الإسلاميون»، الإخوان المسلمون وأقرباؤهم السياسيون، إن في تونس وإن في المغرب، وأيضا إن في مصر. فهؤلاء، بعد كل التجارب المحبطة للقوى والأحزاب القومية واليسارية منذ بدايات خمسينات القرن الماضي وحتى الآن، باتوا في الميدان وحدهم وبلا أي منافس فعلي؛ لذلك فإن الناخب التونسي والمغربي والمصري، وغدا الليبي والسوري، عندما يذهب إلى صندوق الاقتراع، فإنه أمر طبيعي أن يعطي صوته للموجودين على الساحة، والموجودون على الساحة فعليا هم حركات وتنظيمات الإسلام السياسي التي لم تجرب حتى الآن إلا في غزة؛ حيث انتزعت حركة حماس الحكم من فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بانقلاب عسكري دموي على غرار كل الانقلابات العسكرية العربية.

لم يراهن العرب على أي قائد عربي في مرحلة خمسينات وستينات القرن الماضي كما راهنوا على جمال عبد الناصر وعلى انقلابه الذي سمي ثورة 23 من يوليو (تموز)، ولم يراهن العرب على أي حزب سياسي قومي كما راهنوا على حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم في اثنين من أهم الأقطار العربية هما سوريا والعراق، وكاد يحكم في أقطار أخرى من بينها ليبيا، نعم ليبيا، واليمن الجنوبي أيضا، وحقيقة أنه كانت هناك حالة نهوض قومي شكلت حركة القوميين العرب إحدى ركائزها، لكن هذا النهوض ما لبث أن انهار دفعة واحدة عندما انتهت حرب يونيو (حزيران) عام 1967 إلى تلك الهزيمة المنكرة التي لا يزال العرب يدفعون ثمنها حتى الآن؛ حيث هضبة الجولان لا تزال محتلة وحيث الإسرائيليون مستمرون في احتلال الضفة الغربية على الرغم من وجود هذه السلطة الوطنية الفلسطينية.

قبل هزيمة يونيو النكراء وقاصمة الظهر هذه، كان العرب ينتظرون حربا تحرر لهم فلسطين وتعيد لهم كرامتهم المسلوبة وكانوا يصدقون شعارات: وحدة، حرية، اشتراكية، ووحدة، تحرر، ثار، وكانوا يعقدون لواء الزعامة القومية للرئيس جمال عبد الناصر ولحزب البعث، وأيضا لحركة القوميين العرب، لكن كل شيء ما لبث أن انهار دفعة واحدة، أولا: عندما انهارت الوحدة المصرية - السورية، التي بُنيت عليها آمال كبيرة، وثانيا: عندما حلت كارثة عام 1967 باحتلال - فوق ما كانت قد احتلته إسرائيل من فلسطين - الضفة الغربية كلها وسيناء حتى قناة السويس وهضبة الجولان من الشواطئ الشرقية لبحيرة طبرية وحتى مشارف دمشق.

حتى حزب البعث، الذي رفع شعارات قومية دغدغت عواطف أجيال خمسينات وستينات القرن الماضي، قد سقط سقوطا كارثيا في الامتحان القومي والوحدوي، أولا: عندما أيد بعض قادته الكبار الانقلاب الانفصالي الذي أنهى الجمهورية العربية المتحدة، وثانيا: عندما فشل في الحفاظ على وحدته التنظيمية وفشل في توحيد العراق وسوريا بعد سيطرته على الحكم فيهما عام 1963، وثالثا: عندما طبق اشتراكية مشوهة وارتجالية وفاشلة وحوَّل شعار الحرية الذي وعد جماهيره به إلى استبداد بائس على الطريقة الستالينية المرعبة.

كانت هزيمة عام 1967 ضربة قاضية للتيار الناصري القومي ولحزب البعث بنسختيه، النسخة السورية والنسخة العراقية، وهكذا فقد بادر اليسار القومي، المتمثل في تجربة اليمن الجنوبي، والمتمثل أيضا في ظاهرة الكفاح المسلح والمقاومة الفلسطينية، إلى تعبئة الفراغ الناجم عن انهيار التجربتين الناصرية والبعثية، شعبيا وجماهيريا، لكن هذه الظاهرة اليسارية بدورها ما لبثت أن لحقت بسابقتها بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982 وبعد اضطرار «الرفاق» في عدن إلى الارتماء في أحضان علي عبد الله صالح كيفيا وبعد اضمحلال وتلاشي كل الأحزاب الشيوعية العربية كنتيجة لانهيار الاتحاد السوفياتي ومعه منظومة المعسكر الشرقي والدول الاشتراكية.

لهذا، وقد خلت الساحة من القوى الحزبية التقليدية وغير التقليدية، نظرا لعدم بروز أحزاب وطنية فعلية وحقيقية، كانت الدول العربية كلها، ولا تزال، بأمسّ الحاجة إليها، فقد كان أمرا طبيعيا أن يتقدم الإخوان المسلمون وتتقدم التيارات الإسلامية لملء هذا الفراغ، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة أن حركة حماس التي كانت جزءا من «إخوان الأردن» قد أنشئت وظهرت في نهايات عام 1987 وأن الانطلاقة الثانية لـ«إخوان مصر» قد بدأت عام 1984 وأن الصدام البعثي - الإخواني، الذي انتهى بمذبحة حماه الرهيبة، قد بدأ في بدايات عقد ثمانينات القرن الماضي، وأن حركات الإسلام السياسي قد أخذت تنبت تباعا في هذه الفترة ذاتها، في ليبيا وفي تونس، وأيضا في الجزائر، وبالطبع في السودان، وهنا فإنه يسود اعتقاد بأن انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979 كان له تأثير كبير في هذا المجال.

إن هذه موجة كانت قد سبقتها الموجة القومية، الناصرية والبعثية، والموجة اليسارية، وموجة ظاهرة الكفاح المسلح والمقاومة الفلسطينية، والمفترض أن تنظيمات وقوى الإسلام السياسي وفي مقدمتها «الإخوان المسلمون» قد درست هذه التجارب السابقة كلها دراسة جيدة حتى تتجنب السلبيات القاتلة التي وقعت فيها هذه التجارب السابقة المشار إليها، فـ«الشقي من اتعظ بنفسه، والسعيد من اتعظ بغيره»، وعلى هؤلاء جميعا، إن في مصر وإن في ليبيا وتونس والمغرب، وأيضا في سوريا، أن يدركوا أن شعار «الإسلام هو الحل» إن كان صالحا في فترة التعبئة الجماهيرية السابقة فإنه لا يمكن أن يكون صالحا للمرحلة الجديدة؛ حيث وصلت كل هذه القوى والأحزاب إلى سدة الحكم والسلطة وغدا المفروض أن تبادر إلى قطيعة مع أحلام و«رومانسية» الماضي القريب والبعيد والتعاطي بمنتهى الواقعية مع مطالب الناس الذين يريدون الخبز والكرامة وينشدون الديمقراطية والحريات العامة.

يجب عدم الخشية وعدم التطير من وصول قوى وفصائل وأحزاب الإسلام السياسي إلى الحكم، فهؤلاء بعد فوزهم بنتائج صناديق الاقتراع أصبحوا على المحك، وبات عليهم أن يوفروا للذين انتخبوهم، وأيضا للذين لم ينتخبوهم، ما كانوا يطالبون به هم، فمن هو خارج السلطة ليس كمن أصبح على رأسها، وهناك استحقاقات من غير الممكن إنجازها بالشعارات والتنظيرات السابقة وفي مقدمتها شعار «الإسلام هو الحل»؛ فالمواطن الذي تحمل عبء السنوات الطويلة الماضية، والذي دفع ثمن هذا الربيع دماء زكية وعذابات موجعة، له متطلبات لا بد من تحقيقها وبسرعة، من بينها الخبز والكرامة والديمقراطية والتعددية والحريات العامة والقبول بشراكة الآخرين والتعامل على أساس المصالح مع عالم غير ذلك العالم الذي كانت تنظر إليه هذه القوى الإسلامية من زاوية غير زاوية ما بعد وصولها إلى السلطة.

لهذا فإنه يجب أن يكون معروفا لكل قوى وحركات الإسلام السياسي أن هذا الفوز الذي تحقق هذه المرة لن يكون مضمونا حتى في الحدود الدنيا في المرة المقبلة إذا لم ترتقِ هذه القوى بأدائها إلى مستوى مطالب الذين انتخبوها والذين لم ينتخبوها، وإذا لم يتحقق للناس ما أرادوه عندما ثاروا على الأنظمة السابقة وقدموا كل تلك التضحيات التي قدموها، وهي تضحيات كبيرة وتستحق أن يكون ثمنها إنجازات تضع بلدان ثورات الربيع العربي في مستوى الدول المتقدمة، خاصة في مجال الديمقراطية والتعددية والعلمانية والحريات العامة.

إذا فكرت أحزاب وقوى الإسلام السياسي، التي حققت كل هذه الإنجازات الانتخابية، أن تكرر تجربة حكم حماس في غزة وتنفرد بالسلطة والحكم في أقطارها، فإنه عليها أن تعد نفسها منذ الآن إلى سقوط بائس كسقوط القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي؛ فالتجربة «الشمولية» سقطت وإلى الأبد، وهذا العصر هو عصر الديمقراطية والدول المدنية وعصر حقوق الإنسان وتقاسم الحكم وعصر العلمانية والحريات العامة وعصر الأحزاب الوطنية البرامجية، فظاهرة الاختباء وراء الشعارات الصاخبة قد سقطت سقوطا ذريعا وبات المطلوب واقعية تتعامل مع الناس من خلال خطط قابلة للتطبيق وعلى أساس برامج مستنبطة من حاجات المواطنين ومتطلباتهم الأساسية.