ماذا يراد بمصر؟

TT

الذي جرى في أرض الكنانة في الأسبوع الأخير يستعصي على الفهم. على مدى التاريخ الطويل كان المصريون يحبون تراب أرضهم وكانوا بطبيعتهم ينفرون من العنف.. كانوا مسالمين لا يبادرون بالعدوان على أحد.. كان هذا هو حال المصريين على مدار التاريخ القريب منه والبعيد. ما الذي جرى حتى يتحول بعض المصريين من النقيض إلى النقيض؟ ما الذي جرى حتى يعم التطرف والتعصب قطاعا غير قليل من أبناء مصر؟

تقديري أن ذلك يعود إلى أسباب في الداخل، وأسباب واردة من الخارج.

أما أسباب الداخل، فبعضها جاء بعد «25 يناير (كانون الثاني)» وأثناء الفترة الانتقالية وما عم فيها من اضطراب في تصريف الأمور ومن انعدام الثقة بين كل الفرقاء، ومن اعتصامات بمبرر واعتصامات أكثر منها بغير مبرر.. ومن إعلام يهدف أساسا إلى الإثارة من أجل جذب المشاهدين وأموال الإعلانات وبغير اعتبار لمصلحة الوطن العليا، ومن تشرذم ما يقال له النخب السياسية وغلبة الأجندات الخاصة على كثير من مكوناتها.

وأهم من هذا كله، وأعمق من هذا كله، انحدار مستوى التعليم إلى المدى الذي أصبحت فيه الكثرة من خريجي الجامعات لا يحسنون كتابة جملة صحيحة ولا يعملون عقولهم، وساد العقل الحافظ الخامل الذي لا ينتج فكرا ولا علما، وغاب العقل المبدع الناقد الذي يثير التساؤلات ويبحث عن الحلول ويدفع نحو التقدم.

لقد وصل التدني في العملية التعليمية بكل مكوناتها إلى أبعد مستوياته؛ من فصول مكدسة، إلى مدرسين لا يحبون مهنتهم ولا يرضون عن عوائدهم، وكل همهم الدروس الخصوصية التي تدر عليهم الدخل الحقيقي والثروات الطائلة أحيانا.. كل ذلك، إلى جوار مدارس غير مؤهلة لا بالمعامل ولا بالمكتبات ولا بإمكانية ممارسة أي ألعاب رياضية. المقارنة بين المدارس عندما كان جيلنا في المرحلتين الابتدائية والثانوية، والمدارس الآن، تظهر الفارق المخيف وتظهر مدى الهبوط في كل المستويات، ومن الطبيعي أن يكون إفراز العملية التعليمية على هذا النحو هابطا لا يخرج إلا جهلاء لا يحسنون عملا ولا قولا.

والشيء الطبيعي أن يهبط وعي جماهير الشعب إلى مستويات غير مسبوقة.. هذه بعض العوامل الداخلية لما يجري في الفترة الأخيرة من غياب لكل منطق وكل إحساس بالمسؤولية نحو هذا البلد الذي أعطانا جميعا كل شيء، وكان يستحق منا أن نصونه وأن نحميه وأن نضعه حيث يجب أن يكون بين حبات العيون.

هل من المعقول أن بعض شباب مصر يخربون بلدهم بأيديهم ولا يرعون في مستقبله إلاًّ ولا ذمة؟ هل من المعقول أن بعض شباب مصر يدمر جزءا غاليا أساسيا من تاريخها ومستودع تراثها والكثير من تراث البشرية كله؟

مؤسف ما حدث في الأيام الأخيرة مع المجمع العلمي المصري - ذلك الصرح العظيم - الذي مر عليه أكثر من قرنين من الزمان منذ أيام الحملة الفرنسية على مصر التي، رغم أنها كانت في الأساس حملة احتلال، فإنها مع ذلك استقدمت معها بعض خيرة علمائها الذين درسوا أحوال مصر من كل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية وألفوا في ذلك سفرا رائعا تحت اسم «وصف مصر». وأنشئ المجمع أول ما أنشئ في الجهة المقابلة لمسجد السيدة زينب - رضي الله عنها وأرضاها - في حارة ما زالت تحمل حتى اليوم اسم العالم الفرنسي «مونج» أحد العلماء الذين وفدوا مع الحملة.

وانتقل المجمع بعد ذلك بكل تراثه ومحتوياته عدة مرات إلى أن استقر في مكانه الأخير في شارع الشيخ ريحان خلف الجمعية الجغرافية ومجلس الشورى ومجلس الوزراء وفي مواجهة مبنى الجامعة الأميركية بميدان التحرير.

وهذا هو المكان الذي دمرته أيد عابثة مخربة؛ بل أيد آثمة مجرمة تدمر وتخرب من أجل التدمير والتخريب.

وقد حظيت بشرف العضوية في هذا المجمع العلمي العظيم منذ سنوات طويلة، وألقيت فيه بعض المحاضرات واستمعت فيه إلى كثير من علماء مصر المعاصرين يتحدثون؛ كل في مجال تخصصه. وعلى منصة المجمع رجل عالم فاضل هو الأستاذ الدكتور محمود حافظ الذي احتفلنا ببلوغه المائة عام منذ شهور، أطال الله في عمره. قلبي مع هذا الرجل لو كان يعي ما حدث من مأساة وعلم بها. وهذه الصلة الفعلية والنفسية بيني وبين المجمع فضلا عن قيمته العلمية الكبرى هي التي أصابتني بكثير من الألم والإحباط؛ بل وأوشك أن أقول: والاكتئاب.

لماذا نفعل هذا ببلدنا؟ أو لماذا يرتكب بعضنا ذلك الإثم الرهيب؟

وهنا أصل إلى جوار العوامل الداخلية التي رددتها إلى ما أظنه مخططا خارجيا رهيبا لا يريد لهذا البلد نهضة ولا يريد لثورته أن تكتمل؛ بل يسعى إلى تحطيم هذا البلد بكل الوسائل. والأيام الأخيرة - في تقديري - شاهد صدق على هذا الذي أقوله.

إن الذي يقرأ المخططات الصهيونية للمنطقة كلها؛ وفي مقدمتها مصر بطبيعة الحال بحسبانها أكبر دول المنطقة وأكثرها تأثيرا في محيطها، يدرك بوضوح أن هدف الصهيونية الكبير هو ضرب مصر في عقلها وقلبها؛ بل ووجودها نفسه في مقاتل عديدة وليس في مقتل واحد.. إنهم يعتبرون أن حكم مبارك الحليف الاستراتيجي لهم كان بمثابة كنز فقدوه، وقد اعتادوا على عدم الفقد وإنما على المكاسب المتتالية بعضها وراء بعض، فلما حدث زلزال «25 يناير» انطلقت بالنسبة لهم نذر الخطر وكان لا بد من الاستجابة والرد على هذه النذر.

وكان ما كان من أحداث مفجعة يقصد بها تدمير مصر من داخلها وتجريدها من كل قوة ووزن في الداخل وفي المحيط الإقليمي والدولي على سواء. ومن أسف أننا - أو أن بعضنا على الأقل - غافلون عن هذا المخطط الأسود الذي بدأ منذ سنين حول مصر، وها هو ذا يصل الآن إلى قلب مصر.

يا بني مصر، ويا أمة العرب، تنبهوا، إن الخطر كبير، وإن قلب العروبة مستهدف. ليتنا نتنبه قبل فوات الأوان.

والحقيقة أن مصر ليست وحدها هي المستهدفة؛ وإنما الأمة العربية كلها، وقد أسعدني ما قرأته في خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في افتتاح القمة الأخيرة لدول الخليج العربي، عندما أشار بوضوح إلى أن أمن دول الخليج واستقراره مستهدف، وذهب جلالته في تحذيره إلى خطوة متقدمة وجادة؛ بل وضرورية من وجهة نظري، عندما طالب دول المجلس بتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد.

إنها دعوة متقدمة وعلمية وعملية وجادة، ولو تمت فإنها ستنقل الأمة العربية كلها خطوات إلى الأمام، وستكون خطوة موجهة إلى كل أعداء الأمة العربية من كل ناحية.

ليتنا جميعا نتنبه إلى ما يحيق بنا من أخطار. والله المستعان.