في الإسلام والسياسة ثانية

TT

في حوار تلفزيوني طرحت صحافية السؤال التالي على الأمين العام لحزب العدالة والتنمية: كيف يكون في إمكانكم تطبيق برنامج سياسي ينطق بنظركم السياسي الكامل في نطاق أغلبية مشكلة من تيارات سياسية لا تشاطركم وجهة النظر كاملة؟ في جملة مباشرة وصريحة أجاب الأمين العام للحزب الإسلامي الفائز بالرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة والمكلف من الملك (بموجب الدستور المغربي الجديد) باقتراح تشكيلة حكومية تتوافر لها الأغلبية، بطبيعة الأمر: تلك إرادة الناخب المغربي، فلو أن هذا الناخب كان يريد حكومة قوامها حزب العدالة والتنمية بمفرده لكان قد مكننا من نسبة واحد وخمسين في المائة على الأقل، وإذن فعلينا العمل بموجب نسبة سبع وعشرين في المائة المخولة لنا. لا تعنينا إجابة الأستاذ عبد الإله من حيث حمولتها البراغماتية، بل نحن نأخذها من حيث صحتها إن لم نقل من حيث بداهتها.

نتائج صناديق الاقتراع، في انتخابات انعقد الإجماع على نزاهتها مع الاختلاف في تأويل نسب المشاركة، وكذا الامتناع عن المشاركة والعزوف عن التسجيل في اللوائح الانتخابية، تعكس بالفعل إرادة الناخب المغربي في الوصول إلى أغلبية برلمانية تكون لها صفة التشاركية. أغلبية تكون نواتها الصلبة هي بكل تأكيد الحزب الإسلامي، ولكنها تشترط ضمنيا أن تكون تلك النواة محاطة بدوائر تمثل حساسيات آيديولوجية مختلفة أو مغايرة بعض الشيء. نحسب أن هذا هو الدرس الأول الذي يلزم استنتاجه. ثم إننا ندعي وجود نوع من المماثلة بين ما أراده الناخب المغربي وما تم التعبير عنه في تونس، وما هو بصدد التشكل في مصر الآن مع كل الأعاصير التي تحيط بذلك التشكل. نجيز لأنفسنا القول إن هذه النزعة التشاركية هي ما أتى الربيع العربي حاملا له ومبشرا به. تم التعبير عن هذه الإرادة في تونس على نحو، وفي المغرب على نحو مغاير يعكس الطبيعة الفعلية لهذه التلوينات المحلية التي نتحدث عنها، والأمل في الله تعالى عظيم أن تتمكن السفينة المصرية من بلوغ بر الأمان بعد ليل السفر والأعاصير وانفجار التناقضات الداخلية (الثانوية) التي ظل الحكم العسكري يخفيها قرابة ستة عقود - تناقضات لا نشك أن مصر ستخرج منها قوية منتصرة.

هذا الواقع الذي تجليه انتخابات توصف بالنزاهة - وهي في الواقع كذلك من الناحية الصورية، والصورية ومراعاتها المراعاة التامة هي إحدى العلامات البارزة المميزة للممارسة الديمقراطية الحق - الذي ننعته بإرادة التشاركية في امتلاك السلطة التنفيذية وفي تسييرها، يحملنا إلى الرجوع إلى قضية قديمة جديدة معا، قضية نتوهم أحيانا أننا قد أشبعنا القول فيها في خطابنا العربي المعاصر، وأننا، في وجودنا السياسي، قد انتهينا فيها إلى خلاصات ونتائج تجعلنا في حال يقضي بالقسمة الثنائية التي تجعل «الإسلاميين» في جانب و«العلمانيين» (أو من يقضي الوهم بأنهم كذلك) في جانب آخر. نحسب أن الدرس الأكبر الذي يحمله هذا الانتفاض العارم الذي يشهده العالم العربي، سواء نعتناه بالربيع العربي أو بالثورات العربية أو بنعوت أخرى، هو البرهنة على فساد هذه القسمة الثنائية المتوهمة.

هنالك مغزى، أو عبرة، يقضي الدرس، بصفته درسا، بوجوب الوقوف عنده وقفة تأمل ومراجعة للفكر والسلوك معا، بل بمراجعة للفكر والنظر تسبق الفعل بالضرورة وتتقدم عليه. المغزى والعبرة عندنا هي أن قضية الصلة بين الدين والسياسة، وعلى وجه التحديد الصلة بين الإسلام والسياسة، في وجودنا المعاصر، لا تزال قضية جوهرية، محورية، لا بل إنها القضية المحورية التي تجعل كل القضايا الأخرى في وجودنا السياسي العربي المعاصر تدور حولها. لا تزال كل القضايا التي تتصل بالتطور والعقل والحرية وبناء الدولة المدنية تتصل بها، فهي لا تنفصل عنها.

لنقل، في عبارة أخرى، إننا لا نملك أن نقول برأي واضح قاطع في كل هذه القضايا وفي مكانتها في وجودنا السياسي والاجتماعي المعاصر ما لم نحسم الرأي في المسألة المحورية أو المسألة الأم: مسألة الصلة بين الإسلام والسياسة في الوجود العربي الإسلامي المعاصر. تحدثنا، من هذا المنبر في عنفوان حوادث ميدان التحرير في شهر فبراير (شباط) الماضي، عن الآيديولوجيات التي أبان ميدان التحرير فشلها أو بالأحرى أعلن موتها (والحديث عن ميدان التحرير هو حديث عنه من حيث حمولته الرمزية التي تجعل منه مثيلا ذهنيا للأغورا عند اليونان) فعددنا ثلاث: آيديولوجيا القومية العربية في صورتها النمطية التي تدعو إلى وحدة عربية اندماجية في دولة واحدة وتحت راية واحدة (الوهم أو الأسطورة المؤسسة لكل من الخطابين البعثي والناصري)، وآيديولوجيات الماركسية اللينينية التي تحلم بالدولة العربية حسب النموذج السوفياتي القديم، وآيديولوجيات «الإسلام هو الحل» في كل أشكالها التعبيرية.

ولكننا كنا نقول، ولا نزال نكرر القول حتى اليوم، الانتماء إلى الإسلام عقيدة وحضارة معا حقيقة حية فاعلة، وإن من يرى غير ذلك بالنسبة للعالم العربي الإسلامي يقع في خطأ شنيع، ويغرق في وهم يحجب عنه الرؤية ويمنعه من الإدراك السليم. حديث الصلة بين الإسلام والسياسة في الوطن العربي يجعلنا، وجها لوجه، أمام نماذج ثلاثة:

النموذج الإيراني، النموذجي التركي، النموذج الطالباني (المتوهم أنه كذلك). أما النموذج الأول فهو يبدو مقصيا لا يكون الحديث عنه إلا في مستوى الحلم بالدولة الإسلامية القوية، التي يمكن للغرب أن يعمل لها حسابها بامتلاكها للثروة الهائلة التي تحققها عائدات النفط، وكذا بامتلاكها الافتراضي للقنبلة الذرية، أما في مستوى الواقع العملي أو في الحياة اليومية، فإن دولة «ولاية الفقيه» الشيعية تظل مرفوضة في الوجدان العربي، بل ربما كانت بعض مكونات الصورة الفارسية لتلك الدولة تتسرب إلى هذا الوعي. وأما النموذج الطالباني ففيه من عناصر التخويف ومن تصور الاستبداد القاهر مع الانكماش الشديد على الذات ما يقترب به في الوعي العربي الإسلامي من دولة الإرهاب، بل ولربما دولة تختفي فيها الدولة ذاتها لصالح فوضى ديكتاتورية. وأما النموذج التركي فهو صعب التصور عسير على الإدراك العربي الإسلامي في المرحلة الراهنة، يعكس صعوبة الإدراك تلك مقابلة الترحيب الكبير والهتاف الذي حظي به طيب أردوغان في زيارته لميدان التحرير بدعوته الشعب المصري إلى الحرص على تبني العلمانية منهجا وسلوكا وسبيلا إلى الوصول إلى السلطة.

يمكن القول إن هنالك، في الوعي العربي الإسلامي السياسي المعاصر، تطلعا إلى نموذج رابع، هو هذا الذي ننعته بالحكم التشاركي، حيث تكون «الحكومة الملتحية» (كما جعل ذلك عبد الكبير العلوي المدغري عنوانا لكتاب نشره قبل عدة سنوات، غداة مغادرته منصب وزير الأوقاف) ائتلافا يضم الإسلاميين وغير الإسلاميين ممن يشتركون معهم في إرادة التغيير والاستجابة للمطالب التي يرفعها الشارع العربي: محاربة الاستبداد، والفساد، واقتصاد الريع والخلط الشنيع بين السلطتين التنفيذية والاقتصادية (وبالتالي الفساد الكبير، كما يقال في لغة علم الاجتماع اليوم).

هذا الاقتران بين وجود الإسلاميين في السلطة التنفيذية، اعتبارا لما يجسدونه أولا وأساسا بدعوتهم إلى تخليق الحياة العامة، والمطالبة بتأمين الحدود الدنيا من شروط العدالة الاجتماعية والكرامة، وبين قوى سياسية تحمل الشعارات الكبرى التي يقتضي قيام الدولة المدنية الحق توافرها، هو إرادة الحكم التشاركي التي نرى أن الربيع العربي يفيده ويعبر عنه في لغة لا تستعصي على الإدراك، ولا تدق عن فهم الإنسان العربي العادي، دون حذلقة في القول أو تزويق في الألفاظ.